لطالما بررَّت بعض أحزاب قوى الحرية والتغييِّر، لجوءها إلى نهج طريق التسوية السياسية، لوقف تمدد مناصري ومنتفعي نظام الإنقاذ القديم ومنع عودتهم إلى السلطة. وبالمتابعة للتصريحات والبيانات الصادرة منها، نجد أن هذا السبب يكاد يكون الرئيس لقيام هذه العملية، ولكن وبواقع الحال الحالي، وبما رشح من وثائق وتصريحات، هل سينجح ذلك؟
واقع الحال يؤشر إلى العكس ذلك تماماً، إذ أن التقاعس الذي تم بعد أغسطس ٢٠١٩، لعدم جدية قوى سِّياسِّية داخل قوى الحرية والتغيير، في تفكيك بنّية نظام ٣٠ يونيو، رغم وجود لجّنة مختصة بهذا الغرض، انتاشتها سهام الأصدقاء قبل الأعداء، لسبب مقصود لذاته، هو الحفاظ على ميزان معين، ومرسوم بدقة بين قوى الصراع السِّياسِّي الاجتماعي في السُّودان، وبين “سيصّرِّخون” و”الدعوة لعدم الغلو والتشدُّد” ضاعت واحدة من المحاولات، التي كان نجاحها في جوهر مهمتها لا قشرياتها، هو المدخل العمليّ لتفكيك الدولة العميقة، والآن، فإن القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري بالقصر الجمهوري نهار ٥ ديسمبر؛ والتي تقول إنها تسعى إلى تفكيك نظام ٣٠ يونيو، نجدها قد هزمت مبدأها الحالي، يوم أن ضربت عرض الحائط بالبرنامج الاقتصادي النابع من ميثاق التحالف الأساسي، وسارت في نهج اقتصادي، هو ذاته نهج الفلول، ويوم أن قدمت التنازلات في أوجُّ المدّ الثوري.
من الجانب الآخر نجد أن قوى من النظام القديم أدارت معارك ضد لجنة إزالة التمكين في مفاصل أساسية في الدولة، مدعومة من العسكر الذين وقعوا بالأمس على إطار العملية السياسية، وبالطبع فإنهم لم يتغيروا، بيد أنهم غيروا كثيراً خلال عام من ميزان القوى، الذي مال بعيدا عن فئات الإسلام السياسي. وبمعطيات الواقع منذ ٢٥ أكتوبر، فإن ملف تفكيك نظام ٣٠ يونيو، رجع إلى نقطة أكثر تخلفا مما كان عليه في أغسطس ٢٠١٩، وهذه الحقيقة لا يفيد معها تدبيج المواثيق، ولا التشديد في كتابة النص على التفكيك، بالاتفاق الإطاري، إذ أن ميثاق الثورة اصطدم بحقيقة أن الصراع الدائر على الورق، ليس هو نفسه الدائر على الطبيعة، وقد برهنت تجربة عامين من التفكيك على ذلك، وللمفارقة فإن هذه القوى الموقعة الآن، كانت شكليا ترفع شعار التفكيك، بيد أن جوهر ممارستها، كان يضعها في خدمة أجندة المعسكر الآخر.
صحيح أنه لم يكن من الممكن تفكيك التمكين ضربة لازب، وبقدر ما كان ذلك يتطلب عملية طويلة ومتشعبة، إلا أن الإرادة السِّياسِّية التي كانت شبه معدومة لدى بعض القوى، كانت سببا في إبطاء سيّر هذه العملية. وغياب هذه الإرادة، كان نتيجة أسَّاسِّية لكون أن الذين صاغوا جميع هذه الوثائق، كانوا يتعمدون فيها أن تكن مواثيق فضّفاضة، وتكرس مراكز السُّلطة وآليات السطوة والنفوذ في يد المكون العسكري بمجلس السِّيادة، وهي كانت تعرف الخلل البنيوي الذي بنيت عليه قوى الحرية والتغيير نفسها، وهو التنازع بين دعاة (التغيير الجذري) وقوى (الهبوط الناعم).
الإرادة التي كانت وليدة الشرعية الثورية في أغسطس ٢٠١٩، صارت الآن شيء آخر، تضاءلت قوى الحرية والتغيير نفسها، فانحصرت في ٣ أحزاب، وبعض أجسام قيادتها محسوبة على التحالف، هي ذاتها التي انحنت لعاصفة الفلول، يوم أن وقفوا ضد التغيير في جوهر العملية التعليمية، ويوم أن انسحبت لهم هذه الأحزاب من الميدان الثقافي، والهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون القومية، كمثال، بدأت وكأن تغييرا سياسيا لم يطرأ، وذات المنوال كانت الصحف، وأدارت هذه القوى المدنية متعمدة المعركة إداريا، بيد أنها كانت معركة، تحتاج أسلحة أخرى، ليس بينها القرارات الإدارية.
اهتمت لجنة إزالة التمكين بحل النقابات وتعين لجان تسيرية بخطابات صادرة منها، في وقت لم تكن فيه هذه المهمة من اختصاصها، إذ أن المبدأ الذي تواضعت عليه الحركة النقابية السودانية، قبل أن تتأسّس الأحزاب السِّياسِّية نفسها، كان هو أن النقابات تقام بشرعية الجمعية العمومية، وبين هذه وتلك الأخطاء التي من ضمنها، اقتصار مهمة التفكيك على الأموال والأصول، كانت الآلة الإعلامية الضخمة للنظام المباد وحلفائه بالداخل والخارج، تنقل صورة غير التي كانت تجري في الواقع، واجتماعات راتبة للفلول، وحركة أموال واسعة تجري في الخفاء، وتمدد للفلول داخل المؤسسات الانتقالية، بعضهم صار واليا وآخر وزيرا، وحين جاء انقلاب ٢٥ أكتوبر، لو لم يكن عبد الفتاح البرهان حينها إخوانيا، لما كان أمامه غير الاحتماء بالإخوان، لكونهم الحاضنة الأكثر تنظيما، وهم الذين جروا لجنة التفكيِّك، للصراع معها في الميدان الخطأ، وهيئوا ميدانا آخر كان يعد بعيدا عن أعين لجنة التفكيِّك، اكتشفته قوى الحرية والتغيير يوم أن كادت أن توقع مع عبد الله حمدوك اتفاق ٢١ نوفمبر الشهير.
والآن فإن هذه القوى تدخل في عملية تسوية سياسية مع قادة الجيش، فإنها تدخلها وهي فاقدة تماما للإرادة السياسية لتفكيك نظام ٣٠ يونيو، والتي كان يحّمِل الجزء الأكبر منها، الذين خرجوا من التحالف قبل عام ٢٠٢٠، وسبب آخر يجعل من القضية التي يبدو حلها شبه مسّتحيل، هو تبدل ميزان القوى، وهو وبأي حال في ظل هذه التسّوية، ليس مائلاً، لصالح قوى الحرية والتغيير، وإن عام وأكثر من انقلاب ٢٥ أكتوبر، منح إكسير الحياة لنظام الجبهة القومية الإسلامية وفئاته الطبقية المرتبطة به، بعد أن تم إرجاع كل الأصول والأموال المصادرة لهم.
وتمضى الآن ذات القوى التي ما اعتبرت من تجربتها السابقة شيئا، وهي تنحو ذات المنحى، وتنتظر نتائج جديدة، وتطلب تفكيكا، عز حين الوحدة، وضُيِّع يوم أن رأت هذه القوى أن التفكيك هو بطرد الفلول، وتمكين رأسماليين جد مكانهم، وفي الوقت الذي كان فيه مجرد ذكر لجنة التفكيك يثير حفيظة المكون العسكري المرتبط عضويا بالملفات التي تمسك بها اللجنة، كانت هذه القوى تسحب الغطاء السياسي عن اللجنة، وتختزلها في أنها مجرد لجنة إدارية، دون النظر لاعتبار الحساسية الثورية العالية لملف التفكيك نفسه.