صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

نِسْويَّة.. سلام وعدالة!

شارك هذه الصفحة

إيمان آدم *ضيفة على الرُّوزنامة

الاثنين

لم يكن في الحسبان أن تستمر، حتى بعد الإطاحة بالنظام البائد، هذه المواجهة المباشرة مع ورطتنا الوجودية، كنساء نعاني عسف المجتمعات الذكورية في نسختها الأسوأ التي تعكسها القوانين، خاصة قوانين الخدمة الطبية، عبر مستشفيات مأمون حميدة الحكومية، وعلى سبيل المثال المستشفى ذائع السيط، المسمى “مستشفى الأنف والأذن والحنجرة” بالخرطوم!

صديقتي تشغل وظيفتين بدوام كامل لأربع وعشرين ساعة، كأم وكأب، ولا أعذار.. ولا حتى إجازات! ليس هذا فحسب، بل وتشغل، على هامش “اللا وقت” المتبقي، عدداً آخر من الوظائف! فهي معلمة، وطبّاخة، وطبيبة نفسيَّة، وتسعى، عموماً، من خلال أشرف المهن، لكسب رزق حلال تنفقه كله، دون منٍّ ولا أذى، على أسرتها، خدمة لدورها الإنجابي الذي لا يعني، فقط، إنجاب الأطفال، بل، فوق ذلك، تكريس كل جهدها، واهتمامها، وكسبها، في خدمة الأسرة، والمؤسسة الزوجية.

هذا السرد مهم كي نعلم فداحة ما جرى ويجري للنساء من ظلم بائن، وقهر مركَّب!

هذه الصديقة الشابة ذهبت إلى هذا المشفى لإجراء عملية “استئصال لوز” لابنها ذي الست سنوات، وبعد أن استكملت كل الإجراءات اللازمة، ووصلت إلى مرحلة التوقيع على الإقرار بتحمل المسؤولية عن نتائج العملية، فوجئت بأن القانون لا يجيز أهليتها لهذا التوقيع.. كأم! نعم، قالوا لها إن الذي يمنح الأهلية هو الأب، وبالعدم العم، أو حتى ابن العم، وهما من يُعرفان بـ “العَصَبة”، وعجبي لـ “عَصَبة” تجعل العم وابنه أقرب إلى الطفل من أمه! وحسب علمي فإن ذلك لم يتقرَّر لا في القرآن ولا في السُّنَّة!

ولتعجبوا، ما شاء لكم الله أن تعجبوا، لكون من يكتب شعر أغنية، أو يؤلف موسيقاها، يُعتبر “صاحب الحق الأصيل” فيها، حسب قوانين “الملكية الفكرية”، فلا يمكن تجاوزه في أية معاملة تخص النَّص المنتَج، بينما يُعتبر المغنِّي الذي يؤدِّي هذه الأغنية “صاحب الحق المجاور”، لفضله بالمشاركة في إخراج النَّص للمتلقين، فكيف، بالله عليكم، يستقيم انتفاء العلاقة “الأصيلة” للأم، بمن حملته ذاتا في ذاتها، ورعته، وحدها، فكانت له بمثابة الهواء، والغذاء، والكساء، ووفرت له، وهو، بعدُ، في دياجير الظلمات، النور الهادي، والأمن السابغ، والطمأنينة؟!

فلئن كان الشعر مشروعاً ثقافيَّاً، والشعراء هم “أصحابه”، فالأبناء والبنات هم/ن مشاريع الحياة ذاتها، والوجود كله؛ ونحن الأمَّهات “صاحبات الحق الأصيل” في هذه المشاريع. فلتعلن النساء، إذن، إضرابهن عن الإنجاب، إلى أن تنصلح هذه القوانين، ولتكن ثورة حتى النصر.. النصر لـ “الحقوق الوالدية”!

أما أنتم، أيها المتخلفون، الظالمون، المتشبثون بآليات التحكم فينا، وتقرير مصائرنا، فلتعلموا أن النساء هنَّ حياة الحياة والإشراق.. فمتى، والأمر كذلك، ستعترفون بأن الشمس تشرق منهنَّ؟!

الثلاثاء

“من أين تأتي الشاعرية؟!/ من ذكاء القلب؟!/ أم من فطرة الإحساس بالمجهول؟!/ أم من وردة حمراء في الصحراء؟!/ فلا الشَّخصيُّ شخصيٌّ/ ولا الكونيُّ كونيٌّ/ كأنِّي لا كأنِّي/ كلَّما اصغيتُ للقلب امتلأ/ مِمَّا يقول الغيبُ وارتفعت بي الأشجارُ مِن حُلم إلى حُلم/ أطيرْ/ ولي هدفٌ أخيرْ/ كذلِك أُولَدُ منذُ آلافِ السِّنين/ الشَّاعريَّة في ظلام أبيض كتانْ/ أعرَفُ مَن أنَا فِينا/ ومَا حُلمي/ أنَا حُلمي/ كأنِّي لا كأنِّي”!

هكذا أتاني هذا النص مفترعا، اليوم، عبر سماعة الهاتف، محطِّما ما يزحمنا من ترتيبات إدارية تقف عليها، بحدب وصبر شديدين، الحبيبة حياة، وهو يعلم تماماً “إنو الزول بونِّسو غرضو” كما يقولون!

صرت كلي أذن استمع له وهو يقرأ النَّص مفتونا، وأنا أزاحمه غواية التحليق تارة، والالتباس تارة أخرى، فما الشاعرية لأرجحنَّ ما بين ذكاء القلب، وفطرة الإحساس بالمجهول؟!

أستاذي شديد اللطف د. حيدر إبراهيم علي هو دنيا من المعارف، واللطائف، والفتون، ومن نبل السمت والمخبر، روح حفية قادرة، ومثابرة، ومجسِّرة لكل ما يمكن أن يعدَّ بوناً بين الأجيال، تجلس قبالته هكذا، ولا تملُّ، روح فكهة وحكيمة. هذا مزيج مدهش، ومربك، في آن، تحسبه صديقاً قديماً، ولم تتعدَّ معرفتك به أياماً. عركته السنون، فخبر الحياة، وأعدَّ لها عدتها. انحاز لقضايا النساء، داعماً ومنظِّراً حول كيفية إنصافهنَّ. وما بين علم الاجتماع، وقضايا الحقوق، والحريات والفنون، والآداب، وما يربط بينها وبين التنمية، والتَّصدي للعنف، دارت أبحاثه، واسهاماته الفكرية، خصوصاً حول موضوعة “الإسلام السياسي”، ثم وقوفه على العديد من الإصدارات والدوريات.

ونحن نحتفل بحملة الـ “١٦ يوماً لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات”، لا نكتفي، فحسب، بشجب السلوكيات الذكورية ضد المرأة، أو نثمِّن عالياً جداً، فقط، إسهامات نساء عظيمات كفاطمة أحمد إبراهيم، على سبيل المثال، وإنما علينا أن نثمِّن، أيضاً، الإسهامات الإنسانية الرفيعة، والمختلفة، والراتبة، لمفكرين رجال في قامة حيدر، كمقاله المعنون “في بناء البشر”، ومقاله الآخر “المرأة الجديدة” الذي يؤسس، نظرياً وفلسفياً، لمشروع إنصاف المرأة، من خلال محاربة كل أشكال القهر، والتمييز، والتجهيل، والإفقار، أو ما يمكن تسميته “Feminization of Poverty “!

نعم. بقدر ما يوجد رجال نبلاء، يوجد رجال أوغاد! حيدر يحكي ضاحكاً وضاجاً بالسخرية.. تربة “القُرير” بالولاية الشمالية، والتي أنبتته منبتاً حسناً، قادرة على استيعاب كل هذا، والنفاذ بلطف من المزالق، و”قدلة يا مولاي حافي حالق بالطريق الشاقي الكلام”، وفقاً لتصحيف الشريف محجوب الطريف والذكي.

الأربعاء

“هكذا يَرحلُ النّوار خلسةً، يَفجؤُنا الغِيابْ/ وتَرحلُ، يا حَبيبَنا، من بابِ الحياةِ لِبابِ المَنُونْ”!

غاب شابُو الذي ما شابَه شيء سوى اللطف والحنان.. و”الحنانُ أن ترَى كيفَ يُحضَّرُ الدَّمعُ في مُقلةِ الكائنِ الحَي”! هكذا يقول صديقي الغائب الحاضر عاطف خيري، ما بين الغياب بفداحة الموت والغياب بالرحيل للأصقاع النائية تأخذنا الأحزان كل مأخذ.

عبدالله شابُو شيخ الشعراء وشيخي، أيقونة الدماثة، مدرسة الغيرية والتواضع، يخجلك بأدبه الجم، ولا يخذلك تضامنه إن عوَّرتك السنون، راسخ في المعارف، يؤنسن الأشياء الصلدة، فترقُّ من فرط الحميمية واللطف، طفل كهل لا تفارق الابتسامة شفتيه، وجه طلق به ذكاء متقد يظهر في عينيه الطيبتين، وفيه، أيضاً، شقاوة ودهاءٌ، مثقف رحيم يتفقد الأصدقاء من قبيلة الشعراء الجوعى، يقاسمهم الآلام والرغيف، يحمل همَّ كلفة (المواصلات) ليطمئن على وصول قبيلة الطير لوكناتها بأمان!

في كل ركن له ذكرى وصديق، قادر على لمِّ الأشتات والفرقاء، شهد له محمَّد المكي إبراهيم بأنه كان الأكثر تأثيراً على جيلهم من الشُّعراء، سعدت برفقته، وبالتتلمذ عليه، وهو يشغل رئاسة نادي الشعر باليونسكو، بينما كنت ذراعه التنفيذي كأمين عام. ما بين لوركا وأبادماك يكون الأنس، والذاكرة حاضرة، والضحك يحاصر الفضاء حولنا، ويغتال القتامة!

أحاصره بالأسئلة، واستزيده من المُلَحِ والطَّرائف، يحكي فأتمنى ألا يصمت. أقاطعه مستنكرة غياب الحديث عن الصديقات، فيروغ متعذرا بزمان فيه النساء للخدور، مستدركاً أن ما نفعله، الآن، ونفترعه في أجناس الكتابة، يعد فتحاً. يحكي عن صديقتين بدفء تكاد تقبضه بيديك، يقول لواحدة يا آنسة، وللأخرى يا سيدة، فتساءلَتْ الأخيرة عن الفرق، فأجابها ضاحكاً: الآنسة من الأنس، أما السيدة فهي التي تسد نفسك.. زيك كده!

عمَّدته شركة زين للاتصالات أيقونة الشعر، وشخصية العام الثقافية، فشرفت به جائزتها!

غاب شابُو، لكنه ظل أكثر حضوراً ووضاءة. وها هي الكوّة، مدينته الأم، ومدينة الأفذاذ، التيجاني الماحي وعمر عبد الماجد والآخرين، تتجهَّز لأربعينيَّته في الثامن من شهر الثورة، ليكون شهر العرفان، والامتنان لوجوده الباذخ والنبيل. طبت حياً وحياً يا سيدي.

الخميس

ماله هذا الواقع “الواقع!” كلما أقمناه “مال!” ولم يستوِ على سوقه، ولا على “سوق الله أكبر”، ففي الأخير هذا، على الأقل، مباشرةٌ ووضوحٌ، وفيه خصومة شريفة، وخسائره لا ترقى لخسارة الأرواح!

هذي البلاد مثلي مبتلاة، كما كان يقول عني صديقي الشاعر العراقي تامر الجاسم، أو كما يظن فكي جبرين “واطية ليها عمل” من الأراذل ومن شرار القوم!

“مالهم بَنُوكَ بَلُوكَ بالصُّكوكِ الرِّبويَّة والعمالةِ والمُحاصَصة/ ورَهَنُوا إشراقَ شمسِك وعافيتِك بنفوس عليلة.. جلُّ همِّها همُّها/ لِمَ رضُوا لنا الدَّنيّة في غدِنا الذي مَهَرتُه أرواحٌ طاهِرةٌ ودماءٌ ذكيَّة/ مالَها هذي البلادُ التي أنكرتْنِي/ ماطلتنْي الوِدِادْ/ فاكتسَى أخضَرِي بالسَّوادْ/ البلادُ السَّماءُ التي سَرَقوا مِنها العِمَادْ/ فتَهاوَتْ علَيْنَا/ وتولَّى المُغنُّون ذرَّ الرَّمادْ/ البلادُ التِي فِي حِدَاد”!

الجمعة

“النِسْويَّة” مصطلح ملتبس أيديولوجياً، ويرجع مفهومه التاريخي إلى القرن التاسع عشر، وإن كانت مفاهيمه الأحدث تعود إلى منتصف القرن العشرين، حين بدأ النقد “النِّسوي” في أمريكا بمطالب المساواة التي رفعتها الحركات “النِّسويَّة” هناك، وأبرز رائداتها بيتي فريدان، ثمَّ انتقلت بعدها إلى كندا، ثمَّ فرنسا، حيث تُعتبر أبرز رائداتها، سيمون دي بوفوار، وأخذت في الازدهار، عموماً، ابتداءً من السبعينيات. و”النِسْويَّة” جهد نظري وعملي يراجِع، بالنقد والتعديل، الانساق السائدة في بنية المجتمع، حينما يكون “الرجل” هو المركز الفاعل لكل نشاط، ويكون وحده الحائز على الأهلية، وفق الهندسة التَّراتبيَّة المجتمعيَّة البطرياركيَّة التي تسمح بالتمييز ضد النساء! وينسحب هذا التعريف، أيضاً، على الآداب والفنون، وأخص، هنا، الشعر، باعتباره الضرب الأكثر التصاقاً بالفطرة، في بداوتها الأولى، والتي اشتغل عليها القياس والتَّحليل بذات عدسة النِّسويَّة الفاحصة!

وأعرض هنا لبعض الأشعار الشائعة للنساء قبل الستينيات، والتي انتقلت للمتلقي عبر المشافهات؛ حيث يمكن، من خلالها، التحليل السوسيولوجي للهندسة المجتمعية، وتحديد مكانة النِّساء ضمن هذه الهندسة.

قالت الهويدا بت مسمار، من العبدلاب:

“غَنِّي وشكِّريهو الليلة يا سلكُوكَةْ/ جُرِّي النَّم عليهو/ وخنِّقي الدَّلوكةْ/ إنت يا الأصَمْ يا المَا بحمِّسوكا/ يا ضَريب يومين تنزِل فوقْ عدوكَا”! وغنَّت قائلة: “برَّد دارْ أبوه.. الليلة تغنِّي الرَّحمة قالتْ/ يا قشَّاش دموعِي امتى الدَّمعَة سالتْ/ وَكْت الشُّوف وقَع والفُرسَان اتجَارَتْ/ نادُوا لَيْ حسَن قُولولو الحارَّة دارتْ”!

المديح والشكر، هنا، أجمعه لحسن، وكذلك توصيفه بما يحبه الرجال، ويتضاعف ذلك بإحماء الضرب على الدلُّوكة، واستخدام لفظة “خنِّقي”، لكأنما الدلُّوكة ستغص بتتابع وشدة الضرب لأجل حسن الذي يستحق ذلك، وهو الذي لا يحتاج تحميساً، إذ هو “قشَّاش الدمـوع” التي لا بد هي “سـايلة” على خـدِّ هذه المادحة!

وقالت أم كلتوم الجوابرية: “سامْ الرُّوح سَبّلا، أنا أخوي جبل الضَّرا/ يا خريف الرتُوع/ أب شقَّة قمر السِّبوعْ/ فوق بيتُو بيسند الجُّوع/ يا قشَّاش الدِّموعْ/ يسلَمْلِي خالْ فاطنة/ بلالِي البِدَرِّجْ العاطلةْ”!

أي أنه يسترخص روحه، فإذا ما مات فلا بكاء عليه، هذا الفارس شبيه “القمر” خال فاطنة!

في هذه النصوص التي أبدع الفنان الراحل عبد الكريم الكابلي في التغني بها ونشرها، إعلاء من قيم الشهامة، والفروسية، والرجولة، وتكريس للضعف الملازم للنساء، وكأنما تمام رجولة الرجل في كمال ضعف المرأة! وفي ذلك تماهٍ واضح مع التراتبية المجتمعية. فالأدوار “الجندرية” التي تتجلي في هذين المقطعين إنما توضح وضع المرأة الذي يقرُّ به العرف في تلك البيئات، وفحواه ألا يعلو صوت المرأة إلا ليمجًّد الرَّجل، أخاً، أو أباً، أو زوجا، بينما لا تعبِّر عن أي شيء يخصها هي.. لا أشواقها، ولا أمانيها، ولا أحلامها، ولا رغباتها الذاتية. وهذا مدخل أول لدرس نقدي نسوي مختلف!

ولنتناول مقطعاً من نموذج آخر هو غزل الحكَّامة بلدوسة الحمرية في (أندريا) موظف شركة شل، والذي تتغنى به الفنانة نانسي عجاج. يقول المقطع: “هجينك المجبور.. ـندريا/ شادِّنَّا بالباصُور.. أندريا/ تاهمِنِّي بيكَ الزُّور.. أندريا/ ياعسَل ابْ زمبُور.. اندريا/ صنْقَعْتَ للسِّحابْ.. أندريا/ ودنْقَرْتَ للتُّرابْ.. أندريا/ لِقِيتْ نِجِيمِي الغابْ.. أندريا/ في امْ دروته فاتِح بابْ”! إلي قولها: “كان ما الصَّبُر تكليف.. أندريا/ من بيتكُم ما بقيف.. أندريا”!

الفرق واضح جداً هنا؛ فبلدوسة تعبر، بوضوح، عن إحساسها الخاص جداً بمحبوبها، وتجعل من اسمه لازمة تتكرر في كل شطر من البيت الشعري، في حين أن أيَّاً من الشاعرتين السابقتين لا تفصح عن اسم الممدوح، وإنما تكتفي بالإشارة إليه بـ “خال فاطنة” أو “أخوي”!

تصف بلدوسة أندريا بأنه “عسل”، وتعبر عن شدة بحثها عنه في السماء “صنْقَعْتَ للسِّحابْ”، وفي الأرض “دنقرت للتُّراب” لتجد نجمها الغائب في “ام دروته”، ثم تنتبه، في نهاية المقطع، للمحاذير المجتمعية، والتي، لولا أنها تكلَفها الصبر، لما انقطعت عنه “كان ما الصَّبُر تكليف/ من بيتكُم ما بقيف”!

يظهر هنا وضع المرأة المتقدم في العلاقات الإنسانية، وفي المجتمع ككل. فللحكّامة في قبائل الحمر سلطة عظيمة، حيث أنها مهابة، يُعمل لها ألف حساب! وللمرأة في غرب السودان، عموماً، القوامة في أمر البيت، وتصريف شئون الأسرة، والصرف حتى على الرجل! ولعل هذا يبين مدي ما تتمتع به المرأة من حرية في التعبير عن نفسها، دون تحرُج، ودون ارتهان إرادتها لـ “اقتصاد الذكورة”، وإن كان في ذلك، من جهة أخرى، كثير من الاستغلال، فضلاً عن انتشار تعدد الزوجات، واتكال الأزواج عليهن بالكامل، فيكون الدور الوحيد للرجل هو أنه “الزوج”! وإن كان غير صحيح أخذ هذا الحكم على إطلاقه، حيث يختلف الأمر، بشكل ما، بين القبائل الرعوية، والقبائل الزِّراعيَّة.

ومن التراث المتداول شفاهة في ديار الشايقية ما يُنسب إلى فاطمة بت بشير، زوجة العمدة محمد أحمد سمعريت، حيث نشبت مشكلة بينهما، يوم ركبت حماره دون علمه، وذهبت به إلى قرية أبو دوم لحضور مناسبة اجتماعية، مما أثار حفيظته، وأغضبه غضباً شديداً، فأسمعها غليظ القول، فغضبت هي الأخرى، وذهبت إلى بيت والدها، وتدخل الأجاويد، وراجعوها في موقفها، فعادت في المساء، إلى منزل الزوجية، ولكنها وجدت الأبواب موصدة بإحكام، فأخبرها الجيران أن العمدة هو الذي فعل ذلك، فعادت الزوجة تتميَّز غضباً من الإهانة الفادحة!

بعد أيام ذهب عن العمدة غضبه، فأرسل أخته نفيسة للقيام بجودية تطلب فيها من بت بشير العودة لمنزل الزوجية. على أن بت بشير لم تقبل، وثأرت لكرامتها برسالة شعرية أوردها هنا كاملة لطرافتها، ولوجود شقين للموقف فيها “جندريَّاً”، حيث تتفق، من ناحية، مع بلدوسة الحمرية في التعبير عن ذاتها، وتقف، من ناحية أخرى، بندِّيَّة، أمام زوجها ثائرة لكرامتها، مع اختلاف مواقف التعبير “مع/ ضد”، وفارق القيمة الفنية العالية مع حساسية الشعر الاجتماعي الحديث الذي تشتهر به ديار الشايقية، خصوصا “نصوص لسان الحال” لدى شواعرهم النساء. أما في الشق الثاني الذي تتماهى فيه أبيات الرَّفض هذه مع التراتبية المجتمعية للمرأة، رغم ما تجده من تقدير، الأمر الذي سيتضح من ثنايا النص، فقد رأيت إضافة “أبيت” أخرى للضرورة الشعرية، ولكي يستقيم الجرس، وذلك على النَّحو الآتي: “أمشي قوليلُو ابيتْ ابيتْ/ وتانِي قوليلُو ابيتْ ابيتْ/ كانْ ضبحْ تورَك جِبتُو جِيتْ/ وكان ْملَصْ مركوبَكْ حبيتْ/ وكانْ مشيتْ في الخرطوم بنيتْ/ وكانْ قَلعْ جِدَّكْ سمعريتْ/ تانِي ما برجَع تبْ ابيتْ/ شِنْ عملتَ أنا شِنْ سويتْ/ لامِنْ ألقَى الشّفتُو ولِقيتْ/ مِن رِجُوعِي تقْفِل البيتْ/ مالِي شِنْ أذنَبْتَ وجَنيتْ/ أمشِي قوليلُو ابيتْ ابيتْ/ وتانِي قوليلُو ابيتْ ابيتْ”!

السبت

بانت سعادُ، نعم.. وقلبي سيظل “متبول” إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. أمي “بت الجعلي”، كما يناديها أصفياؤها، هي فيض من الرحمة، والقدرة، والحكمة، غيبه الموت، لتحس عميقاً جداً بفراغ يفت في عضدك، ويحيلك أشلاء لا يمكن أن تعيدها سيرتها الأولى، تفكّر، يبدو، في أن أحدهم قد سرق الأرض من تحتك، لتهوي، هكذا، لعمق سحيق من الأسى يغلفه نكران، هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجعلك تتماسك، وتسعى مع عباد الله في ملكوته. حرَّاق هو الموت، يؤلم الأحياء فلا يعودوا ذاتاً ذائبة في جدلية الغياب والحضور.

حاضرة بكثافةٍ أمي، حاضر وقع خطواتها، وما تحاصرك به من مطالبة بالكمال يملؤك قدرة ورغبة في أن تكونه أو، على الأقل، تتمثله. ترعاكِ عين المحبة الصارمة،لا يفوتها فرضٌ، وضريبة الانتماء باهظة يا أمي. وأنا أبهظتني الحياة، واتلفتني، لكنني لا زلت على العهد، وعلى ذات العناد الذي تعرفين “قادِماً مِن تِلال العِنادْ/ قد فعلتُ الذي لا يروقُ العِبادْ/ قد فعلتُ الذي خبَّأته سُعادْ/ ما بينَ ضفَّةِ دِجْلة، رِدحاً، وقلبِ الفُراتْ/ نامَ هوناً، غفَا، ثمَّ أفرخَ قبلَ المعادْ”!

الأحد

لَمْ تَكُن ستُّ النُّفورِ إلا غَزالةْ/ بالحبِّ جازَتْ الموتَ والبسالة/ لَمْ تكُن ستُّ النُّفورِ نافرةً أو عبوسْ/ رغمَ اسمِها تُبهجُ القَلبَ وتحمي التُّروسْ/ لَمْ يفهم الأوغادُ هذا الضوءَ والرُّوحَ الشَّموسْ/ إنهُمْ ضدَّ الجَّمال، الدفءِ، كانوا، ضدَّ أنوارِ الشُّموس/ وضدَّ أوطان يلطخها قضاة الجور بالحَلف الغموس!

* شاعرة


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *