صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

أين انتهى التحرك المصري الأخير في السودان؟

شارك هذه الصفحة

ماذا ستفعل مصر بعد رفض تحركاتها الأخيرة في السودان من قبل الحرية والتغيير؟ سؤال يشغل كثيرين في ظل انطلاق (المرحلة النهائية للعملية السياسية) على أسس الاتفاق السياسي الإطاري الذي وقعته قوى الحرية والتغيير وشركائها المدنيين الجدد مع قادة انقلاب 25 أكتوبر.

ما يجعل من هذا السؤال مكان بحث واهتمام، هو إصرار قادة الحركات الموقعة على اتفاقية سلام جوبا (2020) على الدور المصري، الذي يصفونه بالمبادرة الشاملة لكل الأطراف، في إشارة لقصور الاتفاق الإطارى وعدم استيعابه لقوى تتحالف معهم في إطار (الكتلة الديمقراطية) التي نشأت حديثا وفي ظل الانقلاب.

تصميم الحركات تبدى في إعلان مني أركو مناوي قائد حركة تحرير السودان الموقعة على اتفاق جوبا، تمسكهم بالمبادرة المصرية ورفضهم للاتفاق السياسي الإطاري. جاء الإعلان أمس بعد ساعات من بدء المرحلة النهائية للعملية السياسية في ظل حضور دولي وإقليمي لافت، ومؤشرات على تزايد ثقة الأطراف المحلية والدولية في نجاح العملية، التي يظهر قادة الانقلاب احتفائا كبير بها.

قال مناوي بصريح العبارة إنهم لن يقبلوا بالاتفاق الإطاري، وأن قيادات قوى الحرية والتغيير بتدشن العملية أمس تجاوزوا تفاهمات متقدمة جرت معهم في الأيام الماضية.

لكن. على ماذا يستند مناوي في هذا الإعلان الذي يفارق تطورات المشهد؟ ما الأرضية الصلبة التي يقف عليها هو ورفيقه قائد حركة العدل والمساوة جبريل إبراهيم التي احتفت ظهر اليوم، الاثنين، باستقبال ووداع سفراء مصر في السودان.

في الواقع تنهض العملية السياسية المشار إليها على دعم دولي كبير، بلغ حد تهديد كل من يعمل أو يفكر في عرقلتها. وقد صدر التهديد من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وحتى من سفراء دول عربية تنشط في الرباعية الدولية مثل السعودية.

فهل تعتقد الحركات المسلحة الموقعة على جوبا أن مصر ستعمل على التأثير على هذه الدول؛ بحيث يتم الاستجابة لمطلبهم الأول بتمثيل الكتلة بكل مكوناتها التي تعتبرها الحرية والتغيير داعمة للانقلاب ومناهضة للحكم المدني الديمقراطي من الأساس؟ ثم الاتجاه للحديث عن مبادرة مصرية تتضمن اتفاق جديد يتجاوز الإطاري؟

تصريحات مناوي وجبريل بشأن المبادرة المصرية التي لم تتضح طبيعتها رسميا حتى الآن، لا تجد أدنى اهتمام، لا من أطراف العملية الجديدة، ولا حتى الشارع المنقسم فعليا بشأن الاتفاق الإطاري نفسه، إلا من باب اتفاق على عدم تقبل الدور المصري لوقوفه أمام تطلعات الشعب السوداني، ودعمه للانقلاب.

وبدا أن القاهرة غير متحمسة لرد تحركاتها لتصور محدد المعالم، فقد تركت الساحة لقادة الحركات ومكونات (الكتلة الديمقراطية) للحديث عن مبادرتها وشرح مرامي التحرك، فحتى تصريحات قيادات قوى الحرية والتغيير التي التقت الوفد المصري للخرطوم، قالت بعدم طرحه مبادرة جديدة، وأن الأمر لم يخرج عن إبداء الرغبة في دعم الحوار بين الطرفين.

لكن التحركات المصرية الأخيرة، بالنسبة لمراقبين كانت أقرب لتطوير الموقف المعلن طوال الشهور الماضية، وهو الوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف، لأنها استهدفت إيجاد منصة لقاء بين قوى الحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية، من أجل ضمان حاضنة أكثر تنوعا لما تبقى من المرحلة الانتقالية، وصولا إلى الانتخابات.

وقد تكون تلك التحركات تدخل أخير من أجل المشاركة في صنع صيغة أكثر ملائمة وقربا من القاهرة، من حاضنة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، ومرحلة الانتخابات بحساباتها المعقدة، فلا زالت حركات مسلحة ذات تأثير هائل وقواعد اجتماعية كبيرة، مثل الحركة الشعبية قيادة الحلو، خارج أفق الحلول، بجانب حركة تحرير السودان قيادة عبد الواحد نور.

الشاهد أن القاهرة دائما ما كانت على علاقة وثيقة بأغلب الفاعلين في المشهد السوداني، حتى في أكثر لحظات التاريخ السياسي حرجا، حينما كانت المواجهة على أشده بين النظام البائد والمعارضة المدنية والمسلحة، فقد كانت تحتضن بعض مقراتها وتسمح بأنشطتها بينما تحتفظ بخطوط مفتوحة مع الخرطوم، حتى بدا أنها تجمع بين الموقف ونقيضه في ساحة السياسة السودانية المتحركة.

ومنذ أبريل 2019 يشار بثقة في الشارع السياسي السوداني إلى أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هو الأقرب لدعم (المجلس العسكري) الذي وضع يده على السلطة بعد الإطاحة بنظام المخلوع عمر البشير.

وكان السيسي الذي تترأس بلاده الاتحاد الأفريقي قال إن قادة أفارقة اتفقوا خلال اجتماع عقدوه في القاهرة على منح المجلس العسكري في السودان وقتها المزيد من الوقت لتنفيذ إجراءات الانتقال الديمقراطي  بمساعدة الاتحاد الأفريقي. وهو ما يتعارض مع رؤية ائتلاف قوى الحرية والتغيير) وقتها.

ورغم موقفها السلبي من ثورة 19 ديسمبر وبرنامجها الذي يحقق تطلعات الشعب السوداني، ودعمها مع دول الإقليم انقلاب 25 أكتوبر، فإن تبدل ميزان القوى في السودان بفضل مقاومة الشارع للانقلاب، اقتضى القبول بإعادة رسم مسار العملية الانتقالية، مع ضمان نفوذ عبد الفتاح البرهان في المؤسسة العسكرية والأمنية، بجانب توسيع مساحة المشاركة السياسية لتضم قوى عزلتها ديسمبر، لكنها كانت الأقرب إليها.

حسابات الدولة المصرية تجاه السودان، دائما أيضا ما كانت تتصل بمسألة الأمن القومي، وارتباطها الوثيق بوحدة السودان، ربما لذلك دعمت اجتماع حركات دارفور المسلحة والناظر ترك والجبهة الشعبية التي وقعت اتفاق جوبا/ مسار الشرق التي تضم شاويش والأمين داؤود، بحزب مولانا الميرغني، في تحالف قد تحتم طبيعته أن يضم مستقبلا كيانات أخرى ذات صفة تمثيلية إقليمية طالما حضرت في المشهد.

ولأن مشهد الانتقال في السودان أصبح مفتوح برمته على طموحات إقليمية تفتقد الحساسية، بلغت حد العمل على إعادة هندسة الساحة السياسية، وضمان أن تعزز نتائج الانتخابات المنصوص عليها مصالح دول بعينها، فإنه يصعب الذهاب إلى أن مصر قد تكون سلمت بعدم إمكانية موضعة تحالف الكتلة الديمقراطية في المشهد الانتقالي، وما يؤشر على ذلك التصريحات الأخيرة لمناوي، التي أكد فيها رفض الاتفاق الإطاري حتى بعد تدشين المرحلة النهائية، وأعلن تمسكهم بالمبادرة المصرية التي تفتح الباب لكل الأطراف.

الأرجح وفق كل ذلك، أن تنجح التحركات المصرية في دفع قوى الحرية والتغيير إلى قبول مطالب الحركات المسلحة، أو أغلب هذه المطالب. مع ضمان التعاطي الإيجابي مع بقية مكونات الكتلة في مراحل أخرى من العملية، بما يضمن كامل الدعم الإقليمي، ويعزز فرص الحوار بين قوى الحرية والتغيير والجارة الشمالية في اللقاءات المقبلة.

ومن المتوقع أيضا أن تلملم مصر خلافات البيت الميرغني، بحيث يصبح كلا الشقيقين، المتنافسين حاليا، من دعامات هذا الاتفاق عبر الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل الموحد.

وربما يصبح بعد ذلك من الممكن الحديث عن موقع بعض الشخصيات الخلافية، ودورها خلال المرحلة المقبلة تحصيل حاصل.

قد تكون تصريحات قيادات قوى الحرية والتغيير بعدم وجود مبادرة مصرية صحيحة تماما، لكن ذلك لا ينفي بوجود تحركات مصرية غاية في التأثير بشأن ذات القضايا المثارة، وستكشف الأيام عنها.

أما بالنسبة لتحالف الكتلة الديمقراطية، في الغالب قد يستمر بدعم واضح حتى موعد الانتخابات المقبلة مع توسيعه إلى حد بعيد، حتى لو اقتصر توقيع الاتفاق السياسي على الحركات المسلحة الملزمة بإطار اتفاقية جوبا 2020، مع زيادة حدة الاستقطاب بين قوى الحرية والتغيير ومكونات الكتلة الديمقراطية التي ستتسع على أسس كثيرة، بشكل قد يصعب من تنفيذ برنامج الحكومة وتحقيق أهدافها.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *