صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

روزنامة الأسبوع.. الأُولِيْغَارْشِيَّة: أَزْمَةُ السُّودَانُ!

شارك هذه الصفحة

الاثنين

بسبب “إصرارها” على “امتلاك” أرض في ولاية النِّيل الأزرق، و”إصرارها”، في نفس الوقت، على عدم الانصياع للعرف القبلي المتوارث، والذي يمنع هذا “الامتلاك”، دون أن تمتدَّ أيُّ يدٍ رسميَّة أو أهليَّة حكيمة لمعالجة هذا الوضع، وقعت، وما زالت تقع، اشتباكات دامية بين الهوسا، آخر القبائل الأفريقيَّة التي استقرت في الاقليم، وبين تكوينات قبليَّة أخرى، وأسفرت هذه الاشتباكات، وفق إحصاءات الأمم المتَّحدة، عن مئات القتلى والمصابين، وعشرات آلاف النَّازحين، والحبل على الجَّرار.

في التَّحليل يركب زورقاً مثقوباً من يحاول أن يفصل هذا الصِّراع الأهليَّ الجَّديد عن الصِّراع الأهليِّ القديم حول “الثَّروة” و”السُّلطة”، في أبيي، ودارفور، وجنوب كردفان، أو عن الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان، والتي ظلَّت تتجدَّد، كلَّما توهَّمنا أنها انطفأت، وفي آخر مرَّة استمرَّت،لأكثر من عشرين عاماً بين جيش الرَّاحل جون قرنق الشَّعبي والجَّيش الحكومي، مِمَّا أفضى بالجَّنوب، في نهاية المطاف، للانفصال “الاستقلال”!

الثُّلاثاء

ليلة رأس السَّنة الجَّديدة تبدَّد  الأمل الذي لطالما راود الشَّعبين الرُّوسي والأوكراني، وسائر الشُّعوب المحبَّة للسَّلام، بإنهاء الحرب، وإحلال السَّلام بين البلدين، قبل نهاية الليلة الأخيرة مِن ديسمبر 2022م! ففي تلك الليلة، بالذَّات، ارتكب أفراد قوَّة روسيَّة تعسكر في مدرسة بمنطقة ماكيفكا، بعد أن تم تحويلها إلى ثكنة عسكرية، خطأ جسيماً بأن استخدموا هواتفهم الجوَّالة بشكل مكثَّف، وعلى نحو غير مصرَّح به، مِمَّا سمح لقوَّة أوكرانيَّة كانوا تحت مرمى نيرانها بتتبع وتحديد إحداثيات موقع المدرسة، وبالتَّالي قصْفها، فقُتل، في الحال، 89 جنديَّاً روسيَّاً قُبيل دقائق معدودات من انبلاج فجر اليوم الأوَّل من العام الجَّديد!

أثارت الضَّربة غضب القوميِّين الرُّوس على قيادة بلادهم، بما فيها بوتين نفسه، وشكَّكوا في استراتيجيَّة جيشهم، مِمَّا ينذر بردود فعل قد تؤدِّي إلى تطاول أمد المعارك، وتشعُّب العمليَّات العسكريَّة، وربَّما تعدُّد أطرافها بتدخُّلات قتاليَّة مباشرة على كلي الجَّانبين!

الأربعاء

كلمة “أوليغارشيَّة” Oligarchy يونانيَّة الأصل معنى ومبنى. و”حُكم الأوليغارشيَّة”، أو الأوليغاركية، شكل للحكم تحتكر السُّلطة السِّياسيَّة فيه “أقليَّة” المجتمع؛ سواء من حيث المال، أو النَّسب، أو السُّلطة العسكرية .. الخ. وغالباً ما تكون “الأنظمة الأوليغارشيَّة” مسيطراً عليها من قبل عشائر وعائلات محدودة تتوارث القوَّة والنُّفوذ من جيل لآخر.

ورد مصطلح “حكم الأوليغارشيَّة”، أوَّلاً، لدى الفلاسفة القدماء، وعلى رأسهم أفلاطون الذي قسَّم أنظمة الحكم، في البداية، ضمن كتاب «الجُّمهوريَّة»، إلى ثلاثة: مثالي، حصره في جمهوريَّته، وديموقراطي،  وأوليغارشي. ثم عاد، في كتاب «السِّياسة»، وقسَّم هذه الأنظمة إلى ستَّة؛ نصفها يلتزم بالقانون، والنَّصف الآخر لا يفعل، ووضع “النِّظام الأوليغارشي” ضمن النِّصف الأخير. أمّا أرسطو فقد أعقب أفلاطون بالمزيد من مواصفات “الأوليغارشيَّة”، راصداً شرط النِّصاب المالي لدى مَن يتمتع بصفة “المواطن”. ومضيفاً، مِن ثمَّ، أن نوع الحكم يتوقَّف على “الثَّروة والمِلكيَّة”، وأن مدى اتساع “الحكومة الأوليغارشيَّة” يتوقَّف على مدى اتِّساع طبقة أصحاب الأملاك، ممهِّداً بذلك لاستخدام مصطلح “الأوليغارشيَّة”، أيضاً، كمرادف لحكم الأثرياء أو “البلوتوقراطيَّة”!

غير أن الأوليغارشيَّة لا تعني فقط حكم الأقليَّة مِن الأثرياء، بل تتَّسع لتشمل أيَّة ميزة أخرى. فتتطابق، في نهاية المطاف، مع دلالة “الاستئثار بالسُّلطة”، أو “حكم الطغيان”! ومِن ثمَّ أضحى هذا المصطلح يُستخدم، حاليَّاً، لوصف السُّلطة التي لا تستمدُّ سندها، عموماً، مِن الطَّبقات الشَّعبيَّة، وإنَّما من الأقليَّات الاجتماعيَّة المستفيدة منها، والمكوَّنة مِن شخصيَّات المال، أو الأعمال، أو الصِّناعة، أو أكثر الشَّرائح العليا من جنرالات القوَّات المسلَّحة، والشُّرطيَّة، والنِّظاميَّة الاخرى .. الخ.

ولئن رأى البعض أن “الأوليغارشيَّة” و”الدِّيموقراطيَّة” لا تتناقضان بالضَّرورة، بل يمكنهما العمل والتَّفاعل معاًً، ويضرب هؤلاء المثل بالنِّظام الأمريكي الرَّاهن، فإن الكثيرين يعارضون ذلك، مِن حيث أن الشَّرائح العليا مِن العائلات الأمريكيَّة المتنفِّذة تتَّجه، عمليَّاً، إلى تدمير الرُّؤية “الدِّيموقراطيَّة” لدى الطبقة الوسطى، والحلول محلها كـ “أوليغارشيَّة” مسيطرة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً. ويعزِّز هذا الرَّأي أن معظم القيادات في أمريكا، على مستوى السِّياسة، والصِّناعة، والمال، والقانون، وخلافه، من خرِّيجي جامعتي هارفارد وييل!

“الأوليغارشيَّة”، في واقع الأمر، نقيض “الدِّيموقراطيَّة”. وفي السُّودان قد يكون “حكم الأوليغارشيَّة” هو المصطلح الأكثر ملائمة لتوصيف “الأزمة” السِّياسيَّة المستحكمة. ومِن دلائل صحَّة هذا النَّظر أن مقاومة السُّودانيِّين للاستعمار لم تكن “رفضاً”، فحسب، للحكم “الأجنبي”، ولكن “تطلُّعاً”، أيضاً، إلى “الدِّيموقراطيَّة” باعتبارها “حكم الأغلبيَّة”، ولعلَّ هذا ما يفسِّر تلازم النَّشأة، في أعقاب الحرب الثَّانية، بين “اﻷحزاب السِّياسيَّة” وبين “المنظَّمات الأهليَّة” أو “منظَّمات المجتمع المدني” بالمصطلح الحديث. لذا كان الاستبشار بإعلان “السُّودان المستقل” هو ذاته الاستبشار بإعلان “السُّودان الدِّيموقراطي”، في معنى السُّودان المحكوم بإرادة “أغلبيَّة” بنات وأبناء شعبه. كذلك عندما بدأت تدور طاحونة الانقلابات “الأوليغارشيَّة”، كانت جماهير الشَّعب بالمرصاد لجعجعتها التي لا تورث أبسط طحين، حتَّى لقد أضحى “استرداد الدِّيموقراطيَّة”، في كلِّ مرَّة “تُسلبُ” فيها، قانوناً ثابتاً للثَّورة السُّودانيَّة! لكنَّ هذا “السَّلب” أضحى، للأسف، سمة ثابتة للسِّياسة السُّودانيَّة، مِن حيث تواتر الانقلابات العسكريَّة على الدِّيموقراطيَّات الأولى، والثَّانية، والثَّالثة، فضلاً عن ذلك الذي وقع في 25 أكتوبر 2021م، قاطعاً الطريق أمام تطوُّر ثورة ديسمبر المجيدة، واستكمال مهام الفترة الانتقاليَّة. لقد رتَّبت تلك الانقلابات لـ “حكم شريحة جنرالات”، مِن عبود، إلى نميري، إلى البشير، إلى البرهان، مدعومين بالقوى الاجتماعيَّة المحدودة المستفيدة من شموليَّتهم، باعتبار أنظمتهم “حكم أوليغارشيَّة” استنزف  وحده 53 عاماً من عمر الاستقلال البالغ  في جملته 67 عاماً!           

الخميس

استمعت إلى البروفيسير العالِم فاروق محمَّد ابراهيم يروي، عبر قناة “سودان بكرة”، طَرَفاً مِن تجربته الشَّخصيَّة المريرة مع الاعتقال والتَّعذيب داخل “بيت الأشباح”، أوائل أيَّام النِّظام البائد، وكيف ومتى عرف، لدهشته، أن سبب اعتقاله هو أنه كان يُدرِّس لطلابه، بكليَّة “العلوم” بجامعة الخرطوم، نظريَّة داروين “النُّشوء والارتقاء”، وذلك حين أبلغه بكري حسن صالح الذي كان، وقتها، مسؤول “مجلس الثَّورة” عن جهاز الأمن، قائلاً: “اعتقلناك لأنك ملحد بتقول للطلبة إنو الإنسان الذي كرَّمه الله كان أصلو قرد”!

القاص الرُّوسي البارع أنطون تشيخوف تخصَّص في سلخ جلد القيصريَّة بسرديَّاته الممتعة، والتي تفيض سخريَّة لاذعة من مفارقات ذلك العصر، ومظاهر تخلفه، وجهالاته! روى في إحدى قصصه القصيرة عن “عالِم” مشهور رمى به حظُّه العاثر للسُّكنى إلى جوار إقطاعي ثري “متعالِم”! وما أن عرف الأخير أن ذلك “العالِم” المشهور أصبح جاره، حتَّى أخذ يبعث إليه بخطابات متلاحقة، ليل نهار، مرحِّباً بقدومه، ومدَّعياً له أنه هو أيضاً “عالِمٌ”، ومقترحاً عليه، “أن تتفضَّل بزيارتنا لنقوم معاً باخترع شئ ما”! في الأثناء، ولأجل الاقناع برسوخه في “العِلم”، انبرى الثَّري “المتعالِم” يُتحف جاره “العالِم” ببعض نماذج آرائه “العِلميَّة”، فأخذ يبخِّس له، مثلاً، “الرَّأي” القائل بأن “أصل الانسان قرد”؛ قائلاً: “لو كان هذا صحيحاً، لكان (الحَلَب) يسوقوننا الآن بالسَّلاسل من شارع لشارع ، ويُرغموننا، بالسِّياط، على عمل عجين الفلاح،، ونوم العازب .. الخ”!

بالمناسبة؛ كيف يمكن أن ننتظر مِن عالِم كفاروق أن يدعم “الاتِّفاق الإطاري”، في حين أنه عندما يبحث في بنوده، لا يرى مِن النُّصوص، مثلاً، ما يطمئنه، الآن، إلى أن قضيَّته، وقضايا مَن كان معه مِن رفاق الزَّنزانة الذين حكى قصصهم، سوف تجد مِا يكافئها مِن “العدالة الانتقاليَّة” فبل نهاية “الفترة الانتقاليَّة”؟! وعندما يسأل، يُقال له: سيرد ذلك في الاتِّفاق النِّهائي القادم! أفليس من حقِّه أن يسأل: علام، إذن، يوافق الآن، وماذا يدعم؟!

الجُّمعة

في إحدى حلقات برنامج السِّر قدور الرَّمضاني الشَّائق “أغاني وأغاني” شوَّه عاصم البنَّا أداءه الجَّميل لرائعة أبو داود “هل أنت معي”، من كلمات المصـري محمَّـد عـلي أحمـد، والحـان برعـي، بتصرُّفه غير الحميد في الأبيات القائلة: “سَكِـرَ السُّـمَّارُ والخَمَّـارُ فِـي حَـانِ الغَـرَامْ/ وأنا الصَّـاحِي أرَى فِـي النُّورِ أشْـبَاحَ الظَّـلامْ/ وبَدَت كَأْسِـي عَلَى رَاحِـي بَقَايَا مِـنْ حُطَامْ”! وكذلك البيت القائل: “عَـادَ بِي الوَجْـدُ إِلَى لَيْلِي وكَأْسِـيَ مُتْرَعِ”!

اتَّخذ هذا التَّصرُّف شكل التَّفادي المقصود لـ “صور الخمر” الشِّعريَّة. وبدا لي أن لقدور يدٌ في الأمر، إذ لم يكتف، لدى انتهاء الأغنية، بالاشادة بالأداء، بل أضاف استحسـانه للتَّصـرُّف، ناسـباً إياه للبنَّا وحده!

الغالب أن الدَّافع كان الإحساس بحرج ديني صوَّر للبنَّا، أو لقدور، أو لكليهما، أن التَّغني بالخمر، أو بأيٍّ من ترميزاتها، كالكأس، والسُّكر، والحان، والخمَّار، هو ضرب من “المحرَّمات”، بخلاف ما استقرَّ ضمن الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، حيث ترد صورة الخمر في الشِّعر، عموماً، على ثلاثة وجوه: حقيقي، ومجازي دنيوي، ومجازي صوفي.

أمَّا على الوجه الحقيقي فقد خلَّدت هذه الثَّقافة ضرباً من الغنائيَّات والتَّراكيب الوصفيَّة للخمر، مدحاً لها، وولعاً بها، وترغيباً فيها، بالتركيز على لذَّتها الحسِّيَّة، ونشوتها الجَّسديَّة. فمن إنشاد امرؤ القيس في الجَّاهليَّة: “فَظَـلِلْتُ فِـي دِمَنِ الدّيَارِ كَأَنَّنِي/ نَشْــوَانُ بَاكَـرَهُ صَـبُوحُ مُـدَامِ/ أَنِـف كـَلَوْنِ دَمِ الغَـزَالِ مُعَـتَّقٍ/ منْ خَمْرِ عَانَةَ أوْ كُرُومِ شَبَامِ”! ومِن إنشاد أبو نواس في العصر العبَّاسي: “ألا فَاسْقِنِي خَمْرَاً وقُلْ لِي هِيَ الخَمْرُ/ ولا تَسْقِني سِرَّاً إذا أمْكَنَ الجَّهْرُ”!

وأمَّا على الوجه الثَّاني فثمَّة الاستغراق في السُّكر “المعنوي” بالحب، حيث لم يرَ النَّقد العربي بأساً به، فاعتُبر، رغم دنيويَّة رمزيَّته المجازيَّة، مِمَّا لا حرج فيه.

راكم المدى المتقارب لهذين الوجهين نتاجاً شعريَّاً دنيويَّاً دخل “ديوان العرب” باسم “الخمريَّات”. ومن نماذجه، في نهايات الجَّاهليَّة، وبواكير ظهور الإسلام، قول كعبٍ بن زهير: “نَشْـفَى بِهَـا وهـيِ دَاءٌ لَـو تُصـاقِبنَا/ كَمَـا اشْـتَفَى بِعـِيَادِ الخَمْـرِ مَخْمـُورُ”! وقول الخنساء في رثاء أخيها صخرٍ: “فَقُمْـتُ وقَــدْ كَـادَتْ لِرَوْعـةِ هُلْكِــهِ/ وفَـزْعَـتِهِ نَفْسِـي مـِن الحُـزْنِ تَتْبَعُ/ إلَيْــهِ كَـأنِّـي حَـــوْبَـةً وتـخَــشُّــعـاً/ أخُو الخَمْرِ يَسمُو تَارَةً ثُمَّ يُصـْرَعُ”!  ونسوق قول حسان بن ثابت، شاعر الرسول (ص): “ونَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنا مُلُوكَاً/ وأُسْدَاً مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ”!

بذات القدر كثرت نماذج “صورة الخمر” في الشِّعر العربي المعاصر، ومنها قول معروف الرّصافي: “تمِيلُ بِقَدِّكَ خَمْرُ الدَّلالْ/ فَيَضْحَكُ فِي مَيْلِهِ الاعْتِدَالْ”! ويشبِّه احمد شوقي بها الزَّمانَ قائلاً: “لَمْ نَفِقْ مِنْكَ يَا زَمَانُ فَنَشْكُو/ مُدْمِنُ الخَمْرِ لا يُحِسُّ الخُمَارَا/ فَاصرُفِ الكَأسَ مُشْفِقَاً أو فَوَاصِلْ/ خَرَجَ الرُّشْدُ عَنْ أَكُفِّ السُّكَارَى”! كما يمدحها محمود سامي البارودي بقوله: “تَسِمُ الْعُيُونَ بِنَارِهَا لَكِنَّهَا/ بَرْدٌ عَلى شُرَّابِهَا وَسَلامُ”! ويتشوَّق حافظ إبراهيم لمجلسها قائلاً: “واسْقِنَا يَا غُلامُ حَتَّى تَرَانَا/لا نُطِيقُ الكَلامَ إلاّ بهَمْس”!

وضمن الشِّعر السُّوداني خرائد كثر، من أشـهرها قول توفيق صالح جبريل: “إأتِنِي بِالصَّبُوحِ يَا بَهْجَةَ الرُّوحِ تُرِحْنِي إِنْ كَانَ فِي الِّدَّنِّ بَاقِ”!  وإلى ذلك قول المجذوب: “وأَجْـتَرِعُ المَريسَةَ فِي الحَواري/ وأَهْـذِرُ لا أُلامَ ولا ألُومُ”! وكذلك قول عبد الله الطَّيِّب: “تَرَكْتُ سُلافَ الخَمْرِ بَعْدَكِ مُدَّةً/ وعُدْتُّ إِلَيْها كَيْ تَفُكَّ قِيودِي”! وفي شعر التَّفعيلة نماذج بلا عدٍّ ولا حد!

وأمَّا الوجه الثَّالث، المجازي الصُّوفي، فيحدِّد ملامحه فعل الخمر حين يغيِّب الذَّات المتلاشية في العبادة عن الكون المادِّي، بكلِّ جسومه، ورسومه، ونجومه، وشهبه، من أثر المخامرة حدَّ السُكْر التَّام مِن عشق المعبود، حتَّى لتتكامل صورتا الخمر، الرُّوحيَّة والحسِّيَّة. فالأولى رمز للمحبَّة الإلهيَّة المنطوية على الأسرار العرفانيَّة، فتجلي الحقائق، وتجعل الأكوان تشرق، والأرواح تنتشي بسكرة العشق!

ورغم أن المقصودة “الصُّورة الرُّوحيَّة”، إلا أن ثمَّة مفردات “مادِّيَّة”: “البدر، والهلال، والشَّمس، والنَّجم” ترد، أحياناً، مترافقة مع “الرُّوحيَّة”! فالبناء القاموسي لـ “الحسِّيَّة” يستقرُّ، شعريَّاً، في تركيب “الرُّوحيَّة”: “الحان، والرَّاح، والدَّن، والنَّديم، والكأس، والسَّاقي، والثُّمالة، والنَّادل، والشَّذى، والكرْم، والصَّهباء، والصَّبوح، والغبوق”، فضلاً عن مختلف صيغ الطلب إلى السَّاقي أنْ “أدرها، وناولها، واسكبها، وهاتها، وعجِّل بها، وإلينا بها، وداونا بها، وأرحنا بها”. يتبقى المدى الوحيد للتَّفريق بين المفردات في البُعد التَّرميزي، بإعادة شحنها بدلالات تخدم الصُّورة الذِّهنيَّة، وتتَّسق مع جوهر البناء العرفاني للرُّموزيَّات.

لقـد أجـاد المتصـوِّفة تفجير قدرات “الصُّـورة الرُّوحـيَّة” بطاقات الكشف، والشَّوق، والعشق، ومن أشهرهم محي الدِّين بن عربي: “واشْرَبْ سُلافَةَ خَمِرِهَا بِخِمَارِهَا/ واطْرَبْ عَلَى غَرِدٍ هُنالِكَ تُنْشدُ”!  والإمام السَّهروردي: “رَقَّ الزُّجَاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ/ فَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الأَمْرُ/ فَكَأَنَّهَا خَمْرٌ ولا قَدَحٌ/ وكَأَنَّهَا قَدَحٌ ولا خَمْرُ”! والبوصيري: “فلَوْ أدَارَتْ سُقَاةُ الرَّاحِ  سِيرَتَهُ/ عَلَى النَّدَامى وحَيَّوْهُمْ بِهَا سَكِرُوا”! وعبد الرحيم البُرَعي اليمني: “صَبِيحٌ فِي لِمَى شَفَتَيْهِ خَمْرٌ/ كَأنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ”! وعبد الغني النَّابلسي الذي يسهب في شرح هذا المقصد قاطعاً بأن وصف الخمر، ومدحها، لا حرج فيه، حين يكون محض جسرٍ قريبٍ لمرادٍ بعيدٍ، وينشد في ذلك: “ومَا الكَأسُ إِلا أنْتَ والرُّوحُ خَمْرُهَا/ تَحَقَّقْ تَجِدْ فِي السُّكْرِ أَنْوَاعَ سَرَّاءِ”! أمّا ابن الفارض “سلطان العاشقين” الذي لا جديد بعده في الخمريَّات، فينشد، في روحيَّته الأشهر: “شَرِبْنَا عَلَى ذِكْرِ الحَبِيبِ مُدامَةً/ سَكِرْنَا بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ الكَرْمُ”! وهذا مذهب المتصوِّفة أجمعين، فليس فيه خروج على قيمة إسلاميَّة.

وافرٌ كذلك، في هذا الباب، شعر المتصوِّفة السُّودانيين، فصيحه وعاميُّه. فمن نماذجه الفصيحة إنشاد الشـيخ قريب الله: سَلامٌ سلامٌ أُهَيْلَ المُدَامْ/ خُذُونِي إلَيْكُم فَأَنْتُمْ كِرَامْ”! أو الشَّيخ المجذوب جلال الدِّين: “سَقَاهُ بِكَأْسٍ مِنْ لَذِيذِ شَرَابِهِ/ عُبَيْدٌ تَرَاهُ فِي الخَلائِقِ يَلْعَبْ”! أمَّا مِن نماذج عاميِّه، وهي الأكثر شعبيَّة، فقول أحمد ود سعد: “حسَنْ وَدْ عُثْمَانْ قُوُمْ دَوِّرْ الكُوْبَاتْ”!  أي الكؤوس؛ وكذا الشَّيخ المكاشفي: “وَلُّوا مُدْبِريْنْ ذَاقُوا لَذِيذَ الخَمْرُ/ مِنْ بَعْدْ التَّعَبْ تَعَبْ الصَّرِيْحْ للأَمرُ”! وثمَّة، أيضاً، قصيدة “السُّرَّاي” مجهولة المؤلف، والقائلة: “وَاحْدِيْنْ  بَارْكِيْنْ فُوْقْ اللاَّلُوبْ/ وواحْدِيْنْ بالِّليْلْ شَايْلِيْنْ مَشْرُوبْ”!

وليس هذا التَّرميز وقفاً على العربيَّة؛ فمحمد إقبال، الفيلسوف الإسلامي، وشاعر الهند العظيم، يستعير، هو الآخر، رمزيَّة “نشوة الخمر” في قوله: “جَاهِلاً سِرَّ الحَيَاةِ اجْتَهِد/وامْضِ نشوانَ بخمرِ المَقصِدِ”!   

نخلص إلى أن “صورة الخمر” في قصيدة محمَّـد عـلي أحمـد التي لحَّنها برعي وغنَّاها أبو داود، ثمَّ تغنى بها، مؤخَّراً، عاصم البنَّا في برنامج “أغاني وأغاني”، تسمو عن كلِّ ما قد يكون اعتقد الأخير فيها من خروج على الدِّين والأخلاق، ربَّما بإيحاء، كما أشرنا، من قدور. فالشَّاعر، كما أسلفنا، يستعير ألفاظاً يرمز بها، إلى مدى استغراقه في الهيام. أما مِن حيث الاستلهام لشعر التَّصوُّف، فثمَّة في نفس الأبيات ما يبرِّئ الشَّاعر من قصد الإغواء بمعاقرة الخمر، حسبما قد يكون البنَّا أو استاذه قدور اعتقدا. كما نرجِّح ميل الشاعر للتَّرميز الصُّوفي. تُعضِّد من هذا التَّرجيح شكواه من أن عدم “سُكره” بالغرام، على العكس من “سمَّارِ الحانة” و”خمَّارِها”، قد أبقاه “صاحياً” وحده يراقب، رغم الضُّوء، أشباح الظلام! فهذه الصُّورة تستدعي إلى الأذهان، فوراً، تعبير ابن الفارض في ميميَّته التي سلفت إشارتنا إليها، قائلاً: “أَرْوَاحُنَا خَمْرٌ وأَشْبَاحُنَا كَرْمُ”! فـ “الأشباح” كمقابل لـ “الأرواح” هي، كما في شرح النَّابلسي، “الصُّور التي عليها الكَائنات في عالم إمكانها”. ولقد استخدم ابن الفارض رمزيَّة “الخمر” و”المُدامة” و”السُّكر” لتكثيف خبرة لا تحدُّها القيود الزَّمكانيَّة.

وإذن، فليس في الأغنية ما يجدر أن يستثير حساسيَّة، من أيِّ نوع، دينيَّة كانت أو حتَّى أخلاقيَّة دنيويَّة، لدى المغنِّي، أو القناة، أو مقدِّم البرنامج.

السَّبت

أكثر المشكلات القانونيَّة التي غالباً ما تثور بين أطراف علاقة الإيجارة أمام المحاكم، سببها أن هذه العلاقة لم تكن، منذ بدايتها، قد تأسَّست على قاعدة صلبة من العدالة، علماً بأن ما يُفترض أن يؤسِّس، ابتداءً، لعلاقة عادلة بين المؤجر والمستأجر هو القانون المدني، فإن لم يفعل، فقد يفتح باباً للقانون الجَّنائي وقانون الاجراءات الجَّنائيَّة يصعب إغلاقه ضدَّ أحد الطَّرفين، بصرف النَّظر عن براعة مَنِ يتولى التَّرافع دفاعاً عنه مٍن المحامين!

ثمَّة اختلال، بلا شك، في عدالة هذه العلاقة على مستوى قانون الإيجارات في بلادنا، حيث لم يتوصَّل المشرِّع، حتَّى يوم النَّاس هذا، إلى صيغة متوازنة لهذه العلاقة. ورغم أن هذا الاختلال لا يبلغ ذات مبلغه في قوانين بعض دول الجِّوار، إلا أنه شكَّل، مع ذلك، سبباً لواحدة من أفظع جرائم القتل التي ارتُكبت بالخرطوم، في ختام سبعينات القرن المنصرم، وصدر الحكم على المتَّهم فيها، عام 1982م، بالاعدام شنقاً حتَّى الموت، فتمرُّ هذا العام ذكراه اﻷربعون، وكان قد تولَّى الدِّفاع عن المتَّهم، بلا جدوى، المرحوم عبد الوهاب بوب، بكلِّ ما تعنيه قامته الفارهة، علماً، وفنَّاً، وخبرة!   

أكبر وأقوى أسباب الجَّريمة هو اختلال ميزان العدالة في مستوى التَّشريع ذاته!

الأحد

تداولت مواقع التَّواصل الاجتماعي لقطة طريفة لمحاولة نشطاء عكس العلم الأوكراني بالإضاءة الملوَّنة على الجِّدار الخارجي لمبنى السَّفارة الرُّوسيَّة في واشنطن، ومحاولة أخرى مضادَّة من طاقم السَّفارة للتَّشويش على تلك المحاولة بتسليط كشَّاف إضاءة أبيض على العلم الأوكراني الملوَّن!

وصف ناشرو اللقطة ملاحقة طاقم السَّفارة الرُّوسيَّة علم أوكرانيا في كلِّ الاتِّجاهات، لمنعه من الانعكاس على جدار مبناهم، بأنه أشبه بكرتون “توم وجيري”!

 


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *