في اليوم الأخير من شهر يونيو ١٩٨٩ بدأ انقلاب عمر البشير على نظام الحكم الديمقراطي في السودان، وعلى البنية الاقتصادية السائدة أيضا. كان الانقلاب عنيفا في كل شيء، لكنه واعد بالنسبة لطبقة من المدنيين انتظموا في تنظيم (الإخوان المسلمين) الذي كان يتخذ وقتها اسم (الجبهة الإسلامية القومية) ويقوده حسن الترابي، المدبر الرئيسي للانقلاب.
وسرعان ما احتكر تنظيم الإخوان الدولة بعدة طرق وأخذ يتنفس من رئتها حتى سقوط حكومتهم بثورة شعبية في أبريل 2019.
بدأ الانقلاب المسنود من الجبهة الإسلامية القومية أول قرارته الاقتصادية المؤثرة في العام ١٩٩١، حين قام بتغيير العملة في طبعة جديدة، من (الجنيه) إلى (الدينار). واستهدف القرار جمع السيولة المتداولة خارج النظام المصرفي وإدخالها إلى المصارف لتكون في قبضة الحكام الجدد.
وبإجراءات تبديل العملة نجحت حكومة الانقلاب في التمكن من الكتلة النقدية، وفي الوقت نفسه، محاربة الصفوة الاقتصادية القديمة الموجودة في البلاد سابقا، الأمر الذي أقصى غير الموالين من المنافسة الاقتصادية وأصابهم بالإفلاس. حيث اختفت أو تراجعت أسماء اقتصادية لامعة.
وجراء ذلك كانت نحو ٤ آلاف مصنع أغلقت على مدى الثلاثين سنة الماضية لصالح سياسات حكومة البشير الاقتصادية وأفراد ينتمون إلى تنظيم الجبهة الإسلامية.
وبمقابل الأسماء التي اختفت من المشهد الاقتصادي، لمعت أسماء لأثرياء جدد، هم بالضرورة أعضاء في حزب المؤتمر الوطني الذي كان يترأسه المخلوع عمر البشير، إلى جانب ثراء أشقائه، علي وعبد الله وزوجته الثانية وداد بابكر مضوي، التى أدانتها المحكمة بمصادرة أموال وأصول وأحجار كريمة كانت تستولي عليها.
فيما بقيت أرصدة نافذين مثل علي عثمان، نائب البشير الأسبق، ومساعده نافع علي نافع، ووزير الطاقة والتعدين عوض الجاز، ووالي الخرطوم، عبد الرحمن الخضر، والآخرين من أعضاء الحكومة طي الكتمان وبعيدة عن التداول الإعلامي. لكن ماهو معلوم أنهم جميعا انحدروا من أسر فقيرة قبل مجيء انقلاب تنظيم الإخوان المسلمين إلى السلطة، بمن فيهم وداد بابكر المدانة في قضية ثراء مشبوه.
وأظهر تقرير أعده خبراء سودانيين في يونيو 2019، امتلاك أعضاء في النظام السابق وحلفائهم أكثر من ١٠٠ كلية جامعية بالعاصمة الخرطوم، حصلت على تصريحات بالمزاولة رغم افتقارها للمواصفات، ما يعد شكل من أشكال الثراء المشبوه.
ورغم شبهة الفساد البادية على أفراد الحكومة السابقة، إلا أن إثباته يتطلب تحقيقات دقيقة من لجان مدربة في ظل شكوك حول قدرة وأداء النيابات العامة في السودان.
وعقب النجاح الأولي للثورة نشأت لجنة (تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإزالة التمكين واسترداد الأموال المنهوبة)، لمهمة محددة، هي تنظيف الحياة السياسية من حركة الأصول والأموال التي نهضت مع انقلاب الإنقاذ، وكانت تلك الأموال يديرها أعضاء حزب المؤتمر الوطني المحلول، الذين أصبحوا يتصرفون في أموال الدولة وسلطانها وأجهزتها دون محاسبة أو مساءلة، وذلك لتسخير وشراء الولاءات والتحالفات السياسية، أو صرف تلك الأموال في المشاريع البذخية.
وقد أظهر تقرير المراجع العام، ٢٠١٨، نسبة فساد تفوق (90%)، ذكر أنها موجودة حتى في وزارة المالية نفسها. لكن الجهات العدلية المختصة أو البرلمان لم تحقق في الاتهامات في ذلك الوقت.
لكن قائد انقلاب 25 أكتوبر، عبد الفتاح البرهان، جمد عمل لجنة تفكيك التمكين ونقض جميع قراراتها.
ويشير الباحث حافظ أحمد عبد الله، من جامعة الخرطوم، إلى امتلاك قادة الجبهة الإسلامية لما يقارب ٦٠٠ شركة تجارية في وقت وجيز من انقلابهم في 1989م، أخذت تعمل في مجالات الاستيراد والتصدير والأراضي والطرق والجسور والمقاولات وتشييد السكن الفاخر والشقق السكنية.
وأثناء عملية تبديل العملة في ١٩٩١ قررت الحكومة الانقلابية تحميل كلفة التغيير لأولئك المواطنين الذين سعوا لتبديل عملتهم في المصارف، وقامت بخصم ٢٪ من أرصدتهم، وحجز ٢٠٪ من كل رصيد يزيد عن ١٠٠ ألف جنيه (حوالي ٣٠٠ دولار في ذلك الوقت).
وساهمت تلك الخطوات في تكوين نخبة اقتصادية غلب عليها الولاء السياسي، واستفادت من الإعفاءات الجمركية التي كانت تمنح لفئة سياسية معينة. وتراكمت لديها ثروة بالاستيلاء على أصول القطاع العام عن طريق البيع والإيجار، كما يشير حافظ عبد الله الذي أنجز رسالة ماجستير حول (النخبة الاقتصادية الجديدة في السودان).
وذكر مقترح صادر من خبراء بشأن إدارة الفترة الانتقالية، 2019، إن ما يقارب ٧٠٠ شركة تقع في وضع رمادي وتجنب أموالها بعيدا عن الخزانة العامة. وربما تأتي تهمة البشير التي أدين بها أمام المحكمة نموذجا لتجنيب وإدارة الأموال في الصميم من ذلك، حيث أدين البشير بحيازة مبالغ قيمتها (6,9 مليون يورو و351,770 دولار و5,7 مليون جنيه سوداني) وجدت داخل منزله.
وفي العامين، ٢٠١٢، ٢٠١٨، ابتدر البشير مشروعين منفصلين لمحاربة الفساد، لكن أيا منهما لم يكن فعالا في كبحه، حيث ارتفع الفساد بنسب كبيرة أظهرتها تقارير المراجع العام السنوية (جهة حكومية) المقدمة للبرلمان، وقال رئيس آلية الفساد وقتها الطيب أبو قناية لوسائل الإعلام إن “أي عملية فساد بها عشرات المطبات” مشيرا إلى “تعدي البعض على ممتلكات الدولة وتحويلها إلى ملكيتهم”.
رئيس هيئة تحرير صحيفة الحداثة