صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

البرهان.. أهي وسوسة شيطان التفاصيل؟

الصورة من رويترز

شارك هذه الصفحة

أثارت التصريحات الصادرة من قائد الجيش أمام حشّد من العسكريِّين بالخرطوم- الأربعاء – عاصفة من التعلقيات والردود، وسط السِّودانيِّين الذين لم ينفكُّوا بعد وهم يتجادلون حول محتوى الاتفاق الإطاريّ الموقع بين قادة عسّكريون وأحزاب سِّياسِّية وتجمُّعات مدنية. وجاءت التصريحات التي بها ما يقطع كليا مع وعود وعهود قطعها قائد الجيش، قبل وأثناء توقيع الاتفاق، وهو الأمر الذي حمل كثيرين للاعتقاد بأن قائد الجيش في طريقه إلى نكص عهوده، وبالتالي الانسِّحاب تدريجيا من الاتفاق الإطارىّ الموقع مع قوى الحرية والتغيير في 5 ديسمبر.

بالطبع فإنه ليس جديدا حالة عدم الثبات في المواقف التي ظلت تسيّطر على قائد الجيش، الذي لطالما يضع نصب أعينه قضيتين هامتين بالنسبة له، الأولى هي كسب عامل الوقت، واللعب عليه، ببذل وعود وقطع عهود، تضمن له الاستمرار، في قيادة معسكر ليس موحدا ولا ملتفت حوله، والأخرى هي طمأنة حلفائه الداخليِّين والخارجيِّين، بأنَّ ما يعلنه أو يقوله أو يوعد به لا يعني ولا يطابق رأيه النهائي، ودوما فإن شيطان التفاصيل وهو ملهمه من أجل الارتداد عما وعد به، ولا ينقص الرجل في ذلك شيء، فمسيرته منذ ١١ أبريل تؤكد ذلك.

منذ قرارات الرابع من يوليو الماضي حول خروج الجيش من العملية السياسية، لم يتم اتباع ذلك بخطوات عملية من قِبلُّ البرهان، وبدت تصريحات معلقة في الهواء، في وقت لا يزال الجيش فيه مسيطرا، مع مليشيات شبه نظامية، وقوى سلام جوبا.

ولعام ونيف كانت هذه الحاضنة هي القيادة السياسية لما بعد الانقلاب، بيد أن الضغط الدولي الكثيف من أجل توسيع القاعدة السياسية والاجتماعية للانقلاب، من داخل قوى الثورة، يهدد تماسكها، ويدفع بجزء منها إلى خارج العملية السياسية، وهو ما جعل البرهان في معركة كسب الوقت ينحني لجولة الاتفاق الإطاريّ، كما أنحنى قبلها لجولات أخر، وهو الذي كان مستقر رأيه على موقف آخر، ونتيجة لذلك فإن الاتفاق نفسه بدأ يسقط في كل الامتحانات العملية التي تعرض لها، إذ لا يزال القمع مستمر، ومواقع قوى النظام القديم هي ذاتها، فإن مثل هذه التصريحات ليس مستغربة، وهي تجئ الآن لتأكيد عدم جدية قائد الجيش في مساعيه لحل الأزمة السوُّدانية التي خلقها انقلابه.

بالنسبة لقائد الجيش فإنه في النهاية يرى في قوى “نداء أهل السودان” و”الكتلة الديمقراطية” زائدا رمزية السيد محمد عثمان الميرغني، هي الحاضنة السياسية له، في وجه توجه قائد قوات الدعم السريع الجديد، نحو قوى داخل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، وفي المقابل، فإن البرهان يريد أن يلف حوله أكبر عدد من صغار الضباط والجنود، للضغط على كبارهم، من أجل إيقاف تمدد حميدتي.

ويمضي البرهان في هذا الإتجاه مدعوما من قبل الفريقين، كباشي وإبراهيم جابر، اللذان ربما هما الآن وراء التحولات الظاهرة في موقف البرهان، وهما معروف عنهما تبرمهما من شكل الشراكة بعد ١١ أبريل، والتي قبلاها لاحقا على مضض، ولعل دورهما الكبير في انقلاب ٢٥ أكتوبر يؤكد إمساكمها بخيوط اللعبة، وهي الخيوط التي تتحرك الآن.

وبالمتابعة لتحركات وتصريحات قائد الجيش نجدها جلُّها إنعكاس، أو رجع صدى، لمواقف وتصريحات قائد قوات الدعم السريع، الذى بدأ منذ ما قبل وثيقة اللجنة التسيرية لنقابة المحامين، يُصرح علنا بفشل الانقلاب، وفي ذات الوقت يخوض معركة داخلية، مع كباشي وجابر، والذين يرون في تمدده خطرا عليهم، وسارت الحرب المكتومة بين البرهان ونائبه، وكلا يبحث عما يقوي مراكز نفوذه، ويعزز قبضته، ليظفر بلقب “الوكيل الحصري” لقطب من الأقطاب الدولية المتصارعة في الملف السوداني، وخرج الصراع للعلن ظاهريا لأول مرة، في تناقض توجهات وخطابي البرهان وحميدتي في حفل توقيع الاتفاق الإطاريّ، والذي كان فيه خطاب حميدتي أقرب إلى خطاب المجلس العسكري للحرية والتغيير، بل كان في بعض بنوده يخاطب جذور الأزمات السُّودانية. كان للبرهان قولٌ آخر، هو ترجمة عملية لموقفه حمال الأوجه، والمطمئن لقوى داخلية وخارجية، لا تريد هذا الاتفاق.

إذن، هذه التصريحات تقرأ في سياق الصراع الداخلي المحتدم بين البرهان وحميدتي، والذي هو إنعكاس للصراع الدولي حيال الملف السوداني، وهو ما لم تنتبه له قوى الحرية والتغيير التي بلعت طعم الاتفاق الإطاريّ الذي هدد وحدتها، وفي ذات الوقت أفقدها مراكزها بالشارع، فيما ستتحول لاحقا، وبمعطيات الوضع الحالي، قوى الحرية والتغيير واتفاقها الإطاريّ، إلى “منبتّين”.

وفي المقابل سيحاول البرهان، تعزيز قبضته مع قوى النظام القديم والكتلة الديمقراطية، ولعل ذلك يمكن تلمسه في إنخراط البرهان في المحور الجديد (روسيا، السعودية، مصر) فيما ستضعف قوة وقبضة حميدتي، إلا إذا جد جديد في الصراع الدولي.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *