صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

ماذا لو انتفض الإعلام السوداني وفعل هذا؟

فارس الشغيل

شارك هذه الصفحة

 توطئة منهجيّة

في ظل الوضعيّة السياسيّة المعقدة التي تعيشها البلاد منذ انطلاق حراك ثورة ديسمبر حتى الآن، أي خلال أكثر من أربعة أعوام عجاف، عايش الصحفيون السودانيون، والإعلام السودانيّ بأنواعه وأنماطه المختلفة (الداخليّة والخارجيّة، الخاصّة والعامة، التقليدية والحديثة)، كل تفاصيل هذا الحراك الجماهيريّ الاحتجاجيّ الأطول، والأكثر غضباً، والأشد رفضاً لحُكم الطغاة والجبابرة والدكتاتوريين ورغبتهم لعسكرة الجميع.

وخلال هذه الفترة الانتقاليّة تعاطى الاثنان (الإعلام والصحفيون) مع قضايا وأحداث وتعقيدات وإشكالات هذه الوضعيّة بالسلب والايجاب أو الاثنين معاً حتى هذه اللحظة تماشياً واختلاف سياسة ونمط وأهداف كل مؤسسة صحفيّة عن أخرى، ونوع وتقاطع مصالحها وأهدافها مع مصدر الأحداث، ومدى قربها من مراكز السلطة وصيرورتهما مع الوقت.

ولكن، وكما هو مُلاحظ بالتتبع اليوميّ، هذا التعاطي لم يأتِ بحجم وثوريّة وصورة سياق الوضع الاحتجاجي الانتقاليّ للجماهير، خاصةً تلك التي تدعم ومهتمة بخط الحراك وفرص الانتقال. إذ جاء التعاطي والتعامل ضعيفاً في أغلب أحوالها، ولم يقدر على إبداع أعمال صحفيّة نافذة لافتة بقدر غضب الشارع وانفعاله، وصياغة خطاب متماسك متميز قويّ في مشروع حملة إعلاميّة استراتيجيّة جادة تهدف إلى الإسهام بفعاليّة ومسؤولية ومهنيّة في مجريات الانتقال الديمقراطيّ في السودان،  مع الاحتفاظ لبعض المؤسسات الإعلاميّة البديلة وخاصةً الرقمية بمساهمتها المقدرة ودعمها اللامحدود وخطها التحريري النابض مع غليان الشارع.

وفي تقدير مراقبون ونسبة مقدرة من الرأي العموميّ المتابع أن المؤسسة الإعلاميّة السودانيّة الرسميّة والبديلة دون الإعلام الجديد بكافة أشكاله وأنماطه المختلفة داخلياً وخارجيّاً، لم تعرض حتى الآن كل ما تختزن من مواهب وطاقات وإمكانات، بل لم تقدم “الدور الإعلامي الثوريّ الناجز، والمتوقع والمطلوب والمأمول” منه وفق تعريف المهنة، وصورة المجال عند المخيّال الأكاديميّ والعموميّ؛ فالإعلام رسالة ومبادئ نبيلة، وأخلاقيات ساميّة متماشيّة بتناغم واتساق وكينونة الإنسان السويّة قبل أن تُمارس كمهنة.

الإضافة إلى أنه (أي الإعلام السوداني) يعاني من ضعف في تحديد الأولويات (في هذه الوضعيّة بالتحديد) في نقل وبث ونشر والتعاطي من أي من القضايا والمشكلات والأحداث والوقائع دون الأخرى. تلاحظ غالبيتها متهافتة بنهمٍ على الكُل دون رؤية أو موقف أو مبدأ. لذا على الصحفيين السودانيين الاستيقاظ التو، وعلى الإعلام السودانيّ الصحو للاتساق والانتفاض مع روح السياق العام الثائر، الذي تعيشها البلاد؛ وضعيّة ثورة ديسمبر المستمر كمشروع تغيير ثوريّ استراتيجيّ حقيقيّ شامل.

بالتالي، ومن هذا المنطلق نسعى في هذه المقالة النقديّة الاستقرائيّة إلى محاولة تسميّة وطرح وتوضيح وتأمل ما هو كان يجب أن يكون، وما هو متوقع ومأمول منهما، كحالة طبيعية. وتبدأ الصلب بمدخل تساؤليّ: “ماذا لو..”، وتتأسس النقاط التالية على النقطة الأولى في تواليّة سرديّة مركزية الموضوع، فيدراليّة الكيفية، والنظر، والرؤية، والأهداف.

صلب السرديّة

* ماذا لو انتفضت المؤسسات الإعلاميّة السودانيّة (بالداخل والخارج) في لحظة صحو فارقة، واتفقت (في الحدّ الأدنى في وحدة الأهداف والمصالح رغم تضاربها في العادة) على عمل مشروع إعلامي استراتيجيّ جاد وحقيقيّ يهدف إلى الإسهام بفعاليّة ونشاط في حراك ثورة ديسمبر كمشروع تغيير ثوريّ استراتيجيّ حقيقيّ مستدام بمعالجة صحفيّة جديدة، جريئة، فعّالة، وحكيمة، وبأخلاقياتيّة مهنيّة رفيعة؟

* ماذا لو ثارت هذه المؤسسات، وقامت بإعداد مشروع إعلاميّ مؤسسيّ ضخم فحواه إجراء وعمل تحقيقات استقصائيّة جادة فعّالة، ولها ارتباط وثيق بإبداع تنميّة إعلاميّة مستدامة لاحقاً، يعالج كافة قضايا الفساد بكافة أشكاله وأنماطه ومستوياته، والعنف وخاصةً الهيكليّ والثقافيّ، ونبش المدفون والمؤرشف والممنوع والمنسيّ من قضايا وأحداث، سواء كان للنظام البائد أو الحاليّ. استقصائيات في نكبات ومجازر هنا وهناك، والإبادات الجماعيّة، والاغتصابات المتكررة للنساء، والاتجار بالبشر، وتنجيد الأطفال، وحروب التطهير، والانتهاكات ضد الإنسانية، والنزاعات القبليّة المُمنهجة التي حدثت ولا تزال تحدث بلا توقف في أقاليم النيل الأزرق وجنوب كردفان، ودارفور، آخرها حّية، ورماد سعيرها جديدة: “نكبة إنسان محلية بليل” الأخيرة. مع محاولة ربط كل ذلك بأهداف ومصالح واحتياجات ومواقف ورؤية “ثورة ديسمبر” للحرية والعدالة والسلام المستدام؟

* ماذا لو حددت هذه المؤسسات بخطة واتفاق محكم، وتحالف قويّ، قضايا وأحداث وجوانب معينة تسهم في حراك ثورة ديسمبر دون الأخرى، بدل التهافت في السبق الصحفي في كل صغيرة وكبيرة تحدث دون وجهة نظر أو موقف أخلاقيّ قيميّ، تدعمها وتعمل على معالجتها إعلامياً، وتسهر على بثها ونقلها ونشرها وعمل حملات متنوعة متواصلة لها تفعيلاً وممارسة لنظرية ترتيب (الأجندة) الأولويات؟

* ماذا لو حددت، بعد الاتفاق والتحالف، موقفاً إعلامياً متماسكاً معلناً بجانب صياغة خطاباً صحفياً قوياً موحداً شجاعاً، يعمل ويهدف بقصد وتعمّد وتخطيط، إلى الدعم والإسهام الفعّال، وبشروط صحفيّة رصينة، في الحراك الثوريّ الجماهيريّ الديسمبريّ الذي يرنو نحو تأسيس وضعيّة تحوّل جديد، نحو دولة جديدة، ومجتمع جديد، وواقع مختلف جديد أفضل لكل المجتمعات في السودان؛ واقع قوامهُ فضاء عموميّ حر وعادل يعيش الجميع فيه في تعارف وصداقة، وتعايش إنسانيّ دائم؟

* ماذا لو انتفضت هذه المؤسسات، وقامت بتفعيل “صحافة ما بعد النزاع” في خطة مشروع صحفيّ جادة؛ حيث يسعى الجميع فيه إلى معالجة قضايا وإشكالات، وتعقيدات الاجتماعية، النزاعات الإثنية، والصراعات القبائليّة وأحداث الحرب، والاقتتال المسلح بمباديء وأخلاقيات واستراتيجيات هذا النوع من الصحافة بحكمة ونزاهة ومسؤولية ومهنيّة صارمة، وإظهار اهتمام لافت وجاد بمناطق الهشاشة الاجتماعية والأمنية، وتفعيل نظريّة الصحافة رقيب، وحارس كل شيء يخفى عن الشعب أو الجماهير؛ فهي العين التي لا تغمض لها جفن البتة؟

* ماذا لو نفّضت هذه المؤسسات غبار ورائحة الحبر المكتبيّ، وقامت بتفعيل “الصحافة البنّاءة وصحافة السلام، وصحافة الحوار”؛ حيث الشروع في إعداد أعمال صحفيّة، وإقامة فعاليات ومنتديات وقمم وحوارات بمختلف أنواع الوسائط الإعلاميّة، كلها تسهم في فتح نوافذ ومنصات لمناقشة والتداول والتحاور للجميع بغيّة السعي نحو معالجة قضايا كبرى مثل الدستور، العدالة الانتقالية، كيفية تفكيك تمكين النظام البائد، وكيفية إرساء مشروعيّة الاختلاف بين الجميع، ومناقشة مسائل الهُوية، والتنوع، وخصائص العيش المشترك وتعزيز المواطنة وروح الوطنيّة والمبادئ فوق الدستورية وغيرها من القضايا ذات العموميّة؟

* ماذا لو ثارت هذه المؤسسات بشجاعة وثبات، وأسست مواقع، وصفحات، ومنصات، وصحف، ونوافذ إعلاميّة تقليدية كانت أو رقميّة أو الاثنين معاً، تعمل على كبح جماح أحلام وطموحات قوى الظلام، والاستبداد، والدكتاتورية والحُكم العسكري، مقابل العمل بفعاليّة على معالجة قضايا الانتقال ودعمها بقوة وإدراك، والمشاركة بتفاعل وحراك جاد ومسؤول في مجريات العمليات السياسيّة المدنية الساعيّة إلى تحقيق أحلام وأهداف حراك ديسمبر كمشروع تغيير ثوريّ حقيقي مستدام؟

* ماذا لو اتفقت هذه المؤسسات على خط تحريري صحفيّ موحد مستنداً على حدٍ أدنى من الاتفاق والتحالف على وحدة سياسات تحريرية مختلفة ومتضاربة في الطبيعي، يسعى بجِدٍ إلى تجاهل ومناهضة كل أعمال أعداء الثورة، والحُكم العسكري المرفوض جملةً وتفصيلا بنبض الشارع، وحراك ديسمبر المتواصل كمشروع تغيير حقيقيّ جديد يعلو من صوت الشعب على من، وكيف يُحكم البلاد؟

* ماذا لو اتفقت هذه  المؤسسات على عمل مشروع إعلامي كبير وذو أبعاد مستقبليّة مستدامة يعمل على دعم بناء دولة ومجتمع وفرد الديمقراطية مستفيدةً من التجارب والقصص والممارسات الإعلاميّة التي حدثت وتحققت في العالم، مثل الثورة في هايتي، ورواندا، وجنوب إفريقيا، وغيرها من الثورات والأحداث الكبرى التي كان للإعلام الصوت الأعلى والحاسم فيها؟

ماذا لو شمّر الصحفيون السودانيون وهذه المؤسسات قواهما الماليّة واللوجستيّة، ومواهبها الصحفيّة الكامنة والمقيدة كافة بالداخل والخارج، وعملتا على مراجعة مسؤولة، ونقد جاد، ومنطقي ومعقول، وعقلانيّ لنظرية وممارسة الإعلام السوداني بكل ألوانه وأشكاله وأنماطه المختلفة، ثم السعي لتأسيس وبناء أخرى ناضجة وواعيّة ومهنيّة تعمل على إعداد وتنفيذ كل ما سبق قوله؟

* ماذا لو تحققت كل ما ذكرنا سابقاً أعلاه في الفترة المقبلة.. ماذا لو تحققت فعلاً؟.. إنها مجرد تصوّر نظريّ عام، نرجو أن يأتي يومٌ، ونرى فيه مؤشرات تنفيذ وواقعيّة هذا التصوّر واقعاً مادياً مُعاش.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *