رزاز بشير
“حين نُصاب بالكوليرا يعلموننا كيف نغسل أيدينا، بينما ما نحتاج إليه هو الماء النقيّ. حينما نحترق، يعلموننا كيف تعمل النار، بينما ما نحتاج إليه هو الكهرباء. ما هذه إلا طريقة للومنا كفقراء على معاناتنا. ما نرغب فيه هو امتلاك أراضٍ ومساكنٍ في المدن؛ نرغب في الذهاب إلى الجامعات، نرغب في الماء والكهرباء، نحن لا نرغب في تعليمنا كيف نتقن حياة الفقر بمفردنا”.
حركة أبهلالي بيزمجوندولو
تكنولوجيا المدن الحديثة وكسر سلاسل الطبيعة
بينما تعود نشأة المدن إلى آلاف السنين، إلا أن ما يميِّز تجربة المدن الحديثة هو هذا التضاغط للزمان-مكان (الزمكان)، والذي يتجلّى في الإيقاع المتسارع للحياة اليومية، التكدّس الأفقي والرأسي المتزايد للسكان، والمسافات الطويلة المطوية يومياً بين مناطق سكنية- دراسية-صناعية، إلخ. والتكنولوجيا الحديثة هي ما جعل هذا التطويع المذهل للزمكان ممكناً من خلال سلسلة الابتكارات التقنية التي تلت الثورة الصناعية الأوروبية.
تعتبر العلوم والتكنولوجيا عاملاً أساسيّاً مكّن الإنسان من كسر سلاسل العبودية للطبيعة وللبشر الآخرين من خلال امتلاك القدرة على توجيه الظواهر الطبيعية. فمنذ انتشارها على نطاق واسع في القرن التاسع عشر، صارت التكنولوجيا المتقدمة أداة للسيطرة على الطبيعة وطريقة لتعريفها، ما أنعكس على الأشكال التي تم بها تعريف التجربة اليومية لحياة المدينة نفسها. ومايميز مفهوم البنى التحتية عن التكنولوجيا أن الأولى توفر الأساس الذي يمكن الأنظمة الأخرى من العمل (مثلاً البنى التحتية للكهرباء تمكن الأجهزة الكهربائية من العمل.. وهكذا).
أحدثت الاختراعات الحديثة تغييرات جذرية في الزمكان، أو في هذه الأبعاد الأساسية التي تضع الإطار للتجربة البشرية. فقد أزالت الإضاءة الكهربائية الحدود التقليدية بين الليل والنهار في تقليلها للمخاطر الأمنية لليل، وابتكار أماكن جديدة للترفيه وإضفاء مرونة أكبر على الأنشطة المهنية أو الشخصية. وفي هذا “التطويع للزمكان” قد برزت تغييرات تكنولوجية وسياسية واجتماعية وثقافية.
تمثلات الحداثة: المنازل المحترمة
إلا أن هذه العمليات الاجتماعية- الطبيعية لخلق المدينة فقد تم تأطيرها في “خطاب من التمثلات” التي تُملي الأشكال المعينة التي تتخذها هذه العمليات نفسها. فلوقت طويل ظل التمدن (ايربانيزوشن) هو القوة التي تنسب إليها كل عمليات التحديث الاقتصادي والسياسي. فقد وصفت البنى التحتية الحضرية بأنها “مركزية في تشكيل الحداثة”1، والكهرباء بأنها “ثورة تكنولوجية” وحلقة وصل مهمة في “تحديث المجتمعات المتقدمة”2. هذا التلازم بين البنى التحتية والحداثة قد أنتج ما يشبه الوثنية لهذه الأنظمة التقنية، محولا لها إلى أشياء مرغوبة في ذاتها بعيداً عن فوائدها الوظيفية أحياناً.
إن أنظمة البنى التحتية ليست أنظمة محايدة تؤدي وظائف معينة، بل ظلت من أهم الأدوات في تنظيم العلاقات الاجتماعية، فعلى سبيل المثال فإن عمليات الإمداد الكهربائي في بريطانيا في القرن العشرين لم يتم تصويرها كإحدى مظاهر التقدم فحسب، بل على إنها القوى المحركة له. ودخول الحداثة للمنازل والتعود التدريجي على الكهرباء هذا جعل منها “ضرورة للمنازل المحترمة”3.
هذه المعايير الجديدة للاحترام والعادات الاجتماعية قد قامت بإعادة تعريف الحياة الاجتماعية وعلاقاتها الطبقية والنوعية. فقد شكل مثلاً إمداد المنازل الحديثة بمياه المواسير تمايزاً كبيراً بين “الأجساد الحضرية المُحممة ومُزالة الروائح” وبين “أجساد الفلاحين مُعتقة الرائحة أو البروليتاريا المتعرقة”4.
رحلة التكنولوجيا الحديثة جنوباً
حينما صُدرت تكنولوجيات البنى التحتية لجنوب العالم خلال الحقبة الاستعمارية فقد كانت موجهة لخدمة أهداف المشروع الاستعماري في الأساس، فالسكك الحديدية لأهداف إحكام السيطرة على البلاد وإدارة صادراتها، وشبكات المياه والكهرباء لخدمة النخبة من الخواجات ومعاونيهم المحليين، بينما ظل الإمداد الشامل لكل المواطنيين وعداً لم يتحقق.
الشيء الذي توارثته حكومات مابعد الاستقلال المتتالية من توزيع غير متكافئ للخدمات الحضرية واعتماد تقني شبه كامل على المستعمر القديم في استيراد الحلول التقنية وقطع الغيار5.
كل هذا يضعنا اليوم في مدن تضربها التفاوتات في الحصول على الخدمات الأساسية والوصول لشبكات البنى التحتية، بين “شبكة قومية للمياه” وشبكة محلية من الكاروهات أو الكرجاكات (الطلمبات اليدوية)، وبين شبكات للصرف الصحي على مستوى الأحياء أو المنازل الفردية و”بلاعات موية” ومراحيض بلدية أو لا مراحيض من الأساس، وبين كهرباء رسمية وكهرباء مسروقة ولمبات كيروسين وبطاريات يدوية… إلخ.
تعمل كل هذه الطرق المتباينة التي يتحصل بها سكان المدن هنا على الخدمات على تشكيل تجربة حضرية مختلفة. فإذا أصبحت التكنولوجيا هي المبدأ الذي يشكل الحياة اليومية فإن الحياة اليومية لسكان مدن الجنوب تنتظم وتختبر بطرق متعددة كتعدد هذه التكنولوجيات. فحين يستغرق زمن الطبخ على الفحم ضعف أو ثلاثة أضعاف ذلك الذي على موقد كهربائي، فتلك علاقات مختلفة تماماً مع “الزمن” في نفس المدينة. أو حين نقارن الحركة بين نقطتين داخل المدينة بعربة خاصة مقارنة بمواصلات عامة غير مجدولة، فهذه علاقات مختلفة مع ” المكان”.
كل هذا يجعل من فكرة الدقة في تزامن الأنشطة التي مكنتها ساعات الجيب في نشأة المدن الغربية الحديثة بخدماتها المجدولة بالساعة والدقيقة أمراً عسيراً فى مدن حيث يعتمد الوصول للخدمات على مقدرتنا على التكهن عن متى ستأتي الحافلة أو متى يعود التيار الكهربائي.
إلا أنه ورغم التباينات، تبقى إحداثيات الزمكان للفئات التي تحتكر مراكز القوة وحدها الجديرة بالإعتراف بها، ومن يمكنهم الوصول بيسر لوسط الخرطوم عند الثامنة صباحاً هم من تخاطبهم جداول المحاضرات. أو بصياغة أخرى؛ لا يمكن فهم البنى التحتية من خلال خطاب الحياة اليسيرة وتطويع الطبيعة وحسب، ولا من خلال خطاب الحداثة والمظاهر الاجتماعية وحسب، بل يجب فهمها من خلال خطاب المواطنة وعلاقات القوى التي تحكمه.
المواطنون والرعايا:
يشرح محمود مامداني كيف أن نظام الحكم غير المباشر الذي تبناه الإنجليز في مستعمرات متعددة من بينها السودان قد قام على التمييز بين”المواطنونوالرعايا”. فبينما كانت تتمتع نخب المدينة التي تخضع لنظم المستعمر الإدارية وحكمه المباشر بصفة “المواطنة” والحقوق المدنية، كان سكان الريف يخضعون للإدارات الأهلية التي تتمتع بصلاحيات تتسم بالضبابية والسيولة وتخضع لتقديرات الإدارات نفسها في مناحي عدة أو ما يسميه مامداني بـ “الاستبداد اللامركزي”6. الشيء الذي لم تغير فيه حكومات مابعد الاستقلال المتعاقبة كثيراً.
ليس من الصعب اليوم تتبع مظاهر هذا “الاستبداد اللامركزي” الذي وسم التجربة الريفية في عدة أشكال ومواضع في الخرطوم، المركز التاريخي للمواطنة الحديثة نفسه. فالإنفجار السكاني لمدينة يتضاعف سكانها كل عشر سنوات قد جلب خليط من سكان الريف بإقصائهم التاريخي من حقوق المواطنة، وأخضعه لأشكال جديدة وقديمة، رسمية وغير رسمية من “الاستبداد اللامركزي”. ف”الإدارات الأهلية” بنفس اسمها وطبيعتها الضبابية قد تتبعت نازحي الحروب والضوائق المعيشية إلى أنغولا ومانديلا7، و ترُكت مناطق أخرى لسنين تحت رحمة اللجان الشعبية للنظام البائد أو منظمة الدعوة الإسلامية التي دفعت بأجندتها للأسلمة والتشدد الديني من خلال إمداد تلك المناطق بالخدمات الأساسية.
وبرغم أن مثل هذا الحال من التشظي قد يترك المدينة في حالة من الهشاشة إلا أن البنى التحتية بإمكانها خلق وسط مادي لحمل رسائل سياسية ومحور تلتف حوله التكوينات الاجتماعية ذات المصالح المشتركة. ويمكن متابعة عملية تسييس قضايا البنى التحتية الحضرية اليوم في تجربة الديمقراطية الوليدة في جنوب أفريقيا: حيث لم يضمن الحق المتساوي في العيش في المدينة الذي أُنتزع مع نهاية الأبارتايد حقاً متساوياً في الحصول على خدماتها الأساسية. فقد برزت، منذ نهاية التسعينيات، العديد من الحركات الاجتماعية والمجموعات القاعدية التي تحشد حول قضايا الخدمات والبنى التحتية من ماء وكهرباء ومساكن1.
أبهالالي بيزمجوندولو8(سكان بيوت الصفيح في لغة الزولو) مثلاً هي إحدى هذه الحركات التي نشأت في ديربان منذ بداية الألفينيات، حيث تعمل الحركة على حقوق سكان بيوت الصفيح من خلال صياغة مطالب تتمحور حول حقهم في السكن، بما فيه مايعرف بـ “السكن العشوائي” بالإضافة لخدمات الماء والكهرباء والتعليم.
ما تستخدم فيه أسلوب المواجهة المباشرة مع السلطات مثل تنظيم المظاهرات وإغلاق الطرقات مع دعم هذه الفعاليات بما يمكن تسميته بـ “محو الأمية السياسية” من خلال رفع الوعي الحقوقي للمواطنين وتبني لغة حوار مع السلطات تُساءل هذا التواطوء الضمني بين مؤسسات الدولة والمجتمع لتطيبيع العنف والإقصاء ضد الفقراء. وهي حركة قاعدية بالكامل ولا تخفي تشككها من المؤسسات القائمة وممثليها بمن فيهم الأكاديميين والمثقفين والمنظرين السياسيين الذين تضع شروطاً للتعامل معهم. ومن أبرز إنجازاتها كانت التقليل من عمليات الإخلاء القسري لمنازل الصفيح المصنفة “عشوائية” والمهددة بالإزالة، والتي تتبنى فيها عدة إستراتيجيات مثل الاحتلال الجماعي للمنازل المستهدفة، أو تزويد السكان بنسخة جيب بالبند 26 من الدستور، والذي يفصل الإجراءات اللازم إتباعها والمستندات الواجب إبرازها من جانب الشرطة في حالات الإخلاء القسري، والتي عادةً ما تتجاوزها القوات النظامية، الشيء الذي نجح في إنقاذ الكثير من هذه المنازل من فك البلدوزر9.
أما في الخرطوم، فقد تجلت السياسات العنصرية والإقصائية للنظام السابق أكثر ماتجلت في سياسات السكن والخدمات، من كارثة معسكرات دار السلام في بداية التسعينيات والتي راح ضحيتها الآلاف من النازحين الذين تم ترحيلهم لأطراف أمدرمان بدون الحد الأدنى من الخدمات، مثل مصادر المياه أو المباني التي تحميهم من هجير الموقع الصحراوي المعزول، إلى الإخلاء القسري لمواطني سوبا الأراضي في مطلع الألفينيات والذي خلف عشرات القتلى. وإذا كان تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية قد ظل أمراً تشيح عنه النخبة السياسية العميقة، فإن أحداث مثل اعتصام سوبا الأراضي الذي أستمر لأكثر من أسبوع في مطلع العام الماضي، يأتي ليعيد صياغة مطالب أفسدها التجريد والشعرية السياسية عن “المواطن” و”حقوقه” في صيغ تُرى وتُلمس وتُقاس مثل “لجان مقاومة سوبا الأراضي: نطالب بحقوق المواطنة المتساوية من خدمات الكهرباء– توصيل شبكة مياه الشرب- فتح المجاري للخريف- سفلتة الطرق- بناء مدارس ثانوية- تشييد مراكز صحية بالمنطقة.”
مراجع:
- Von Schnitzler, A. (2016) Democracy’s infrastructure: techno-politics and protest after apartheid. Princeton: Princeton University Press.
- S. (1995). The incredible shrinking world? Technology and the production of space. Environment and Planning D: Society and Space. (13), 529-555.
- Pursell, C. (1999) Domesticating modernity: the Electrical Association for Women, 1924–86. The British journal for the history of science. [Online] 32 (1), 47–67.
- Kaika, M. & Swyngedouw, E. (2000). Fetishizing the modern city: the phantasmagoria of urban technological networks. International Journal of Urban and Regional Research. 24(1):120–138. DOI: 10.1111/1468-2427.00239.
- Graham, S. & Marvin, S., (2001) Splintering Urbanism: networked infrastructures, technological mobilities and the urban condition. London: Routledge.
- Mamdani, M. (1996) Citizen and subject: contemporary Africa and the legacy of late colonialism. Princeton, N.J: Princeton University Press.
- Pantuliano, S. et al. (2011). City limits: urbanisation and vulnerability in Sudan: Khartoum case study. Humanitarian Policy Group. Overseas Development Institute. London.
- Abahlali baseMjondolo website: http://abahlali.org/
- Selmeczi, A. (2014). Dis-placing political illiteracy – politics of intellectual equality in a SA shack-dwellers movement. Interface. 6 (1): 230 – 265.