صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

أخبار سارة عن نهاية الأبد الاجتماعي

شارك هذه الصفحة

في طريقي اليومي للعمل، وقفت في انتظار المواصلات العامة، وكان بالقرب مني شابين، جاءتنا حافلة أولى صغيرة، لكنها كانت ممتلئة ولا توجد بها مقاعد متاحة، كان للشابين خيار أن يركبا في ممرات هذه الحافلة الممتلئة (شماعة كما درجت اللغة السائدة)، أما أنا فانتظرت وقتا إضافيا أطول لتأتي حافلة أخرى بها مقاعد شاغرة.

يبدو هذا الموقف طبيعيا ومكررا إلى حد كبير، لكنه يخلق تساؤل: لماذا لم أركب (شماعة) واختصر وقتي، ومن أين جاء هذا السلوك؟ علما بأنه يمكنني فعل ذلك، وربما يمكنني السير على أقدامي طول المشوار وبذل مجهود يفوق وقوفي في الحافلة، بل أنني أفعل ذلك في حال صعودي على الباصات ذات السعة الكبيرة.

على صعيد آخر دار نقاش بيني وبين أحد أصدقائي عن الكم الهائل من المسؤوليات التي على عاتقه لمجرد أنه (الأخ الأكبر- الذكر) في الأسرة واستصحب معها تكاليف زواجه وغيرها من الالتزامات التي يمليها عليه ما هو متعارف عليه.

موقف أخير، حكت لي صديقتي قصتها وهي من قرى الجزيرة بوسط السودان عن زواجها في سن الرابعة عشر من ابن عمها دون أن تكمل تعليمها، وكيف أن الأمر سار بصورة سيئة وانتهى بالطلاق، واسترسلت بعد ذلك في حديثها عن العديد من محاولتها للاستقلال المادي وسعيها للتعليم الذي واجه بدوره عدة عراقل من أسرتها وطليقها بسبب ما هو مقبول لديهم أو مرفوض.

بالرغم من اختلاف هذه المواقف إلا أنها ترتبط جميعها بأدوارنا التي تمليها علينا تنشئتنا الاجتماعية ومدى قبول أو رفض المجتمع لسلوكياتنا.

تواجهنا الكثير من مثل هذه المواقف في حياتنا اليومية المتمثلة في توجيه سلوكياتنا وفقا لنوعنا (ذكورا أو إناثا)، وفي ذاكرتنا، منذ الطفولة وبداية مما نرتديه وما نحبذه من ألوان دون سواها وأشكال وأنواع الألعاب التي نجد فيها أنفسنا أكثر من غيرها، مرورا بفترات المراهقة والتحولات التي تطرأ في تصوراتنا لأنفسنا حتى المراحل اللاحقة، إلا أنه غالبا ما يكون تأثرنا بهذه الأفكار بسيطا في مراحل الطفولة مقارنة بغيرها من المراحل، ويمكننا، في أغلب الأحيان، تجاهل هذه الأدوار المتمايزة والمتوقعة منا، بل والخلط بينها في مراحل الطفولة، ويزداد حذرنا كلما تقدمنا في المراحل العمرية من الوقوع في منطقة السلوك غير المقبول اجتماعيا.

وهذا ما يسمى بالجنوسة، أي الأفكار والتصورآت الاجتماعية لمعنى الرجولة والأنوثة، فالتنشئة الاجتماعية الجنوسية تمثل فهم الطريقة التي يجري فيها تعلم الأدوار المتوقعة من الجنسين من خلال عدة عوامل كالعائلة، المجتمع والإعلام. وبناء عليها تتشكل الفوارق الجنوسية للذكر والمرأه وما يتم توقعه منهما وفقا للعامل المؤثر.

يرى علماء علم الاجتماع الوظيفيين أن البنات والأولاد يتعلمون الأدوار المتصلة بجنسهم وهوياتهم، ذكورا وإناثا، وفق قوى التنشئة الاجتماعية وأنماط الجزاء الايجابية والسلبية وفق ما تحبذه أو تنهي عنه من سلوكيات معينة.

وفقا لذلك فالجنوسة ليست نتاجا بيولجيا بحتا، بل مكتسبا ثقافيا أُعيد بناؤه وتصوره اجتماعيا ليصبح التمايز الجنوسي بين الجنسين مجرد إطار تضع الثقافة حدوده في المجتمع الواحد.

إذا، إلى أي حد تشكلنا التنشئة الاجتماعية، سواء كان تشكيلا بصوره إيجابية أو سلبية، وهل يعقل أن تكون حياتنا، أدوارنا، هوياتنا وتوقعاتنا لأنفسنا محض نتاج للتنشئة الاجتماعية؟

تأتي الأخبار السارة وفقا لما تم نقده من نظريات التنشئة الاجتماعية، بأنها تتجاهل قدرة الأفراد على أن يرفضوا أو يعدلوا من التوقعات الاجتماعية المتصلة بأدوار النوع. وأن فواعل التنشئة الاجتماعية لا تترك آثارها بصورة آلية على الشخص، وجل ما تفعله هو أن تدعو الطفل إلى المشاركة في ممارسة اجتماعية بشروط محددة، وغالبا ما تمثل هذه الدعوة سلطة إرغامية وممارسة ضغوط قوية عليه للقبول مع غياب أي خيار بديل، إلا أن البشر ليسو مجرد كائنات سلبية تتقبل البرمجة، وأنهم فاعلون نشطون يصنعون الأدوار لأنفسهم ويعدلونها.

برغم أن امتلاك جرأة معارضة التنشئة الاجتماعية ومواجهة عواقب الرفض الاجتماعي، بمختلف أشكاله، ليست لدى جميع الناس، إلا أننا لا يمكننا أن نغفل وجود النزعة الفردية لدى بعض الأفراد في المجتمعات دون غيرهم، وقابليتهم لنقد المُعطى الاجتماعي وإعمال العقل النقدي فيما يتم تلقينهم إياه.

وارتبط بزوغ النزعة الفردية، إلى حد ما، بالعولمة، واصبح الأفراد أكثر قدرة على تغيير مسارات وخيارات حياتهم، فتصاعد النزعة الفردية أتاح للناس الإسهام بصورة أكبر في بناء هوياتهم الخاصة مقابل انحسار قوة الموروثات الثقافية والتقاليد الاجتماعية.

فكلما قلّ مدى تأثر الفرد بقوة التنشئة الاجتماعية وخضوعه لقوتها، زاد استقلاله الفكري والاجتماعي، وغالبا ما يؤثر مدى انتشار هذه الاستقلالية في المجتمع على ديناميته أو سكونه.

فالناظر إلى تاريخ المجتمعات يلاحظ بوضوح التغيرات التي تطرأ على القيم والأدوار الاجتماعية باختلاف الفترة الزمنية التي يستغرقها التغيير الاجتماعي من مجتمع لآخر وفقا لعدة عوامل. ما يشير إلى أن الأدوار الاجتماعية المبنية على أساس النوع أو الجنوسة ليست أمرا حتميا إبديا سيشكل حياتنا للأبد، بل إنها قابلة للتعديل وإن استغرق ذلك وقتا طويلا.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *