صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

السودان.. “العملية السياسية” في مهب رياح إقليمية

شارك هذه الصفحة

سلّطت عودة مولانا محمد عثمان الميرغني (85 عاما) إلى الخرطوم، الأضواء على مدى تشابك الخطوط السياسية والتحالفات الداخلية والخارجية، في خرطوم ما بعد الانقلاب، ثم سرعة التحولات الجارية على هذا الصعيد من ناحية أخرى، بدرجة قد تُتيح التنبؤ بالمآلات.

 مشهد العودة ذو الحشود الجماهيرية المعتادة، انفتح على تعمق الانشقاق في بيت السيد الميرغني والحزب، وانحاز نجله الحسن لتحالف الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، بينما انضم نجله الآخر، مع قسم من الحزب، إلى تحالف ضرار هو (الكتلة الديمقراطية) التي تضم أبرز حركات دارفور المسلحة.

والخلاف بين التحالفين الرئيسين، في إطار العملية السياسية التي تقودها الوساطات الإقليمية والدولية، ينطلق بحسب التصريحات المتبادلة من جملة تصورات متعارضة للبناء الدستوري الملائم في هذه المرحلة، بجانب كيفية تشكيل مؤسسات الانتقال.

الظاهر أن تحالف الحرية والتغيير يتمسك بالوثيقة الدستورية التي ابتدرتها اللجنةالتسيرية لنقابة المحامين، ووقعت عليها أطراف ما يوصف بالعملية السياسية، بجانب قادة انقلاب 25 أكتوبر، فيما ترفض الكتلة الديمقراطية اعتبار هذه الوثيقة الأرضيةَ الدستوريةَ الوحيدةَ للحوار أو الاتفاق، وتطرح وثيقتها الخاصة في هذا الشأن، والتي لا تخرج عن بضعة تعديلات للوثيقة الدستورية المجازة في 2019، والتي وقع عليها الانقلاب نفسه.

أبرز نقاط الخلاف في الوثيقتين المعنيّتين، كما يبدو، هو وضع العسكريين في سياق عملية الانتقال، إذ تنص الوثيقة التي تطرحها الكتلة الديمقراطية على “تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة برئاسة القائد العام للجيش” وتمثل فيه الأجهزة النظامية الأخرى، ليتولى مهام حماية البلاد والالتزام بالوثيقة الدستورية ودعم التحول الديمقراطي، فضلا عن مجلس للأمن الدفاع يرأسه رئيس الوزراء، ويمثل فيه قائد الجيش والحركات المسلحة وجهاز المخابرات، دون الاشارة إلى وضعية قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو. بينما تضمن وثيقة المحامين ابتعاد العسكريين عن مهام الحكم والأمن تماما، التي تضعها هي تحت سلطة رئيس الوزراء الذي تختاره أطراف العملية السياسية.

الشاهد أن وثيقة المحامين التي وقع عليها قادة الانقلاب، نصت بوضوح على دمج القوات العسكرية في جيش مهني واحد، والنأي به عن العمل السياسي، وحصر مهامه في الدفاع عن سيادة وحماية حدود البلاد وحماية الدستور الانتقالي، وتنفيذ السياسات المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري، بجانب تبعية جهازي الشرطة والأمن إلى السلطة التنفيذية، على أن يكون رئيس الوزراء هو القائد الأعلى لها.

لكن يبدو أن الخلاف يشمل، أيضا،  نقاطا غير مرئية، مثل وضع قيادات الحركات المسلحة في الحكومة الانتقالية، التي تصفها وثيقة المحامين بحكومة الكفاءات، بجانب شكوك حول مدى التزام الحرية والتغيير بتنفيذ اتفاق سلام جوبا (أكتوبر 2020) دون تعديلات، طالما طالب بها الشارع الثوري.

واضحى الاتفاق الموقع في أكتوبر 2020 النقطة الخلافية الكبرى، بعد أن التزمت الحرية والتغيير بمراجعته وصولا إلى سلام عادل يشمل الحركة الشعبية لتحرير السودان، شمال، قيادة عبدالعزيز الحلو، وحركة تحرير السودان قيادة عبد الواحد نور.

وفي مقابل هذا، شددت الوثيقة الخاصة بالكتلة الديمقراطية على احتفاظ الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا بنسبة 25% من السلطة التنفيذية والتشريعية، وعدم تعديل الوثيقة بما يخالف اتفاق جوبا، إلا بموافقة الأطراف الموقعة عليه.

لكن هذا الخلاف ،أيضا، بحسب تفسير محللين، ناجمٌ عن تعارض مصالح إقليمية تخدم أهدافها عبر التحالفات المتصارعة على كيفية تشكيل مؤسسات الانتقال ومرجعياتها الدستورية.

أصابع الاتهام تذهب في هذا الإطار إلى الإمارات، التي يَعتقد البعض أنها من تدعم الوثيقة الدستورية التي طرحتها تسييرية المحامين، من أجل تمكين حلفائها المدنيين والعسكريين في مؤسسات الانتقال، وعدم المسّ باستقلالية الحليف العسكري على وجه الخصوص، وضمان عدم تسرب عناصر حزب المؤتمر الوطني المحلول إلى تلك المؤسسات، أو العملية السياسية برمتها.

في الجانب الآخر، تحمل مصر مسؤولية شق الحزب الاتحادي، برئاسة مولانا الميرغني،  وانضمام قسم منه بقيادة نجله، جعفر الصادق، إلى الكتلة الديمقراطية، من أجل تعزيز دورها وموقعها في العملية السياسية من خلال جماهيرية الحزب ورمزية السيد الميرغني، وبالتالي خدمة رؤيتها في كيفية بناء مؤسسات الانتقال، والإطار الدستوري الذي ينظم عملها وعلاقاتها، وكل ذلك سعيا وراء ضمان معادلة ملائمة في مرحلة الانتخابات التي تعقب الفترة الانتقالية.

وحتى مع كل ذلك، فإن عودة الميرغني، بعد نحو عشر سنواتن، كانت محل انتظار لبعض من يخشون ازدياد التوترات والانقسامات في المجتمع على أسس غير سياسية، رهانا على فرضية إعادة توحيد الحزب الاتحادي، الذي يحوز على أنصار كثر في أقاليم مختلفة من السودان، تشهد مثل هذه الصراعات، إلا أن إطار العودة وتداعيات مشهدها ترك الكثير من الشكوك بشأن هذا الهدف.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *