صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

استثمار أم استحواذ؟

شارك هذه الصفحة

ماجد محمد علي

مثل الإعلان عن توقيع وزير المالية المكلف عقدا مع شركة إماراتية، يتضمن إنشاء ميناء ومنطقة اقتصادية في ساحل البحر الأحمر، فضلا عن استثمارات زراعية في نهر النيل، مفاجأة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة لكل الأوساط في السودان، ليس لأن الجهة المستفيدة هي أبوظبي، المشهورة باستثماراتها في هذا القطاع الحيوي، ولا لأن الإعلان صدر من دون إشارات مسبقة لوجود مثل هذه المخططات الاقتصادية الكبرى، بل لأن البلاد بلا حكومة، ولاجهة تشريع منذ انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وتعيش أوضاعا لا تخول لأي جهة اتخاذ مثل هذه القرارات التي يصفها خبراء بالخطيرة والمؤثرة على مواردها ومستقبلها.

الإعلان عن هذا المشروع قبل أن تقرر حتى في جدواه وتنظر في مخططاته جهة الاختصاص، وهي هيئة الموانئ البحرية، ينم، بحسب مراقبين، عن تجاوز من جهة اتخاذ القرار داخل الحكومة الملكفة بتسيير الأعمال، لكنه أيضا يشرح طبيعة المخططات، وحتى الأطماع التي تحيط بالسودان وموارده.

وبدا أن صمت أغلب القوى السياسية والتحالفات الناشطة في المشهد السياسي عن التعليق، كان تعبيرا عن حالة من العجز في ظل الدور البارز الذي تلعبه الدولة المستفيدة في تشكيل المشهد الانتقالي برمته، وهو عجز يمتد بما يشمل تحركات بقية الدول الفاعلة في هذا المشهد وتمتلك بدورها مشاريع في ذات الإتجاه.

مشروع الميناء لم يكن الأول ولا الأخير بالنسبة للإمارات؛ فقد حصلت بالفعل خلال الشهور الماضية على عقود استثمار مشروع ضخم ومحوري في خطط التنمية، وهو (وادي الهواد)، بجانب إنشاء وإدارة خط يربط بورتسودان بمدينة أدري التشادية، التي تعتبر بوابة لأسواق غرب إفريقيا.

هذه الدولة الخليجية لم تكن الوحيدة على سجل الحائزين على أكبر المشاريع والاستثمارات في البلاد، فهناك السعودية والولايات المتحدة الأمريكية ومصر، وبدرجة أقل كلا من قطر والكويت والبحرين.

سبق العقد الجديد توقيع عشرات العقود خلال سنوات حكم النظام البائد، أغلبها كرس لحيازة مستثمرون أجانب على ملايين الأفدنة الزراعية في مختلف الولايات، دون حتى أن تتم زراعتها بالفعل، ما يدفع بالشكوك حول أهداف حيازة الأراضي في ظل صراعات عالمية يدور معظمها حول مصادر المياه والأراضي الزراعية، التي تتناقص في ظل تغييرات المناخ التي يشهدها العالم.

وتبلغ جملة الأراضي الصالحة للزراعة 200 مليون فدان، تمثل 45% من مساحة السودان، ونسبة أكبر من جملة الأراضي التي يمكن زراعتها في كامل المنطقة العربية، لكن المستغل منها فعليا نحو 30% بحسب إحصائيات رسمية، وتتوزع هذه الأراضي المستغلة بنسبة 90٪ في القطاع المطري و10٪ في القطاع المروي.

وتسبب ضعف التمويل للإنتاج الزراعي بشقيه، في غياب التقنيات الحديثة، ما أدى مجملا لضعف الإنتاج وتذبذبه من موسم إلى آخر في ظل تخبط السياسات المتبعة، لكن ذلك لم يمنع مساهمة القطاع بنسبة 38٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الماضية.

أما جملة الأراضي التي استحوذ عليها أجانب بالفعل وفق عقود استثمار، فيصعب تحديدها على وجه الدقة في ظل تضارب الأرقام المعلنة، إلا أن السودان كان قبل سنوات يقبع في المركز الرابع على قائمة أكثر الدول التى تم الاستحواذ على أراضيها الزراعية، وفي هذه الحالة لن يقل الرقم عن ملايين الأفدنة.

ولأن ملف الأراضي والاستثمارات الأجنبية ذات الصلة، كان قد خضع لمراجعات خلال عهد الحكومة الانتقالية المنقلب عليها، فقد كان كثيرون يتوقعون حينها أن تتولى الحكومة الجديدة إحكامه بما يتفق والمصلحة الوطنية، وبما يضمن حقوق المجتمعات المحلية التي تعيش على الزراعة والرعي، وتمارس على تلك الأراضي كافة أنشطتها الحيوية، لكن الانقلاب قطع الطريق أيضا على إحراز تقدم ملموس في هذا الملف، ما يعني بقاء القوانين التي لا تحمي المحتمعات المحلية ولا تكفل حقوقهم.

حالة الغموض التي تحيط بحقيقة حجم الاستثمارات الأجنبية في الأراضي الزراعية، وعدم وضوح الحدود الفاصلة بين الاستثمار وعمليات الاستحواذ، يثير قلق كبير بين خبراء الاقتصاد والسياسة.

ويقول المحلل السياسي أنور سليمان إن عقود الاستثمار في الأراضي أو غيرها، في ظل أنظمة حكم ديمقراطية تحتكم للقانون والشفافية وتخضع للرقابة، تعتبر نشاطا اقتصاديا مفهوما ومرغوبا.

وتابع: “لكنها تصبح في ظل الأنظمة غير الديمقراطية أنشطة ذات اغراض سياسية محددة، ويمكنها بهذا الفهم أن تشكل خطرا على البلاد، بل وعلى الطرف الأجنبي”.

سليمان يرى أن عقود الاستحواذ ذات الأغراض السياسية يمكن إلغائها مستقبلا دون تعقيدات، كما سيتاح للحكومة الديمقراطية إعادة النظر في كل السياسات والقوانين المعنية بالاستثمار الأجنبي، بحيث تتحقق الأهداف للوطنية المرجوة منه.

ولا يمكن لتوقيت توقيع الاتفاق الجديد إلا أن يطرح تساؤلات حول سبب استباقه تشكيل مؤسسات الحكم التي نص عليها الاتفاق السياسي الإطاري الموقع في 5 ديسمبر، وفي مقدمتها البرلمان، والجهات التي صرحت بهذه الخطوة في ظل الفراغ الناجم عن الانقلاب، لكن السؤال الأهم بحسب المحلل السياسي محمد محجوب يدور حول موقع هذه المشاريع من خطط التنمية الوطنية الشاملة بالضرورة، وتداعيات إنشاء المشاريع عليها، وعلى أي عمليات تخطيط مستقبلية في هذا الصدد؟

محجوب يشعر أيضا بالقلق من الأوضاع التي سمحت لجهاز الدولة باتخاذ مثل هذه القرارات التي يصفها بالخطيرة والمؤثرة على مستقبل البلد واقتصادها وحتى حقوق مواطنيها دون أي تردد.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *