يتيح لي عملي بالتدريس في الجامعة الدخول في نقاشات مستفيضة موضوعها التعليم، كان آخر هذه النقاشات جرت مع زميلي حول دور التعليم في التنمية بالاستناد إلى واقع السودان، ووصلنا فيه إلى التساؤل عن جدوى ما ينتجه التمرحل عبر السلم التعليمي في البلاد!
فحين نسأل: أهو تعليم أم تدريس؟ قد لا يكون التساؤل جديدا في أذهاننا، لكنه يدو مخيفا بالنظر إلى عدد الحاصلين على درجات علمية رفيعة، ومدى فاعليتها على المستوى الشخصي والمجتمعي، ومرعبا، في الوقت نفسه، باستكمال صورة الواقع السوداني واستصحاب نسبة الأمية في السودان.
حاولت جاهدة الابتعاد عن النظرة المتشائمة للنظر في الواقع السوداني إلا أن التبني للجانب الإيجابي يبدو محض كذبة بيضاء لمجاراة الوهم.
لا أعتقد أنه ينبغي عليّ، بالضروره هنا، استصحاب نسب ودراسات علمية لإثارة هذا التساؤل، فالمتلقي للتعليم، منذ المرحلة الابتدائية مرورا بالتعليم العالي، يذخر ذهنه بعدد مقدر من المواقف التي تزدخم بالأسلوب التلقيني، على شاكلة “احفظ الإجابة النموذجية”، بدلا عن تمليك أدوات نقدية وتحليلية وإثراء الذهن السوداني. فمحتوى المناهج يتجنب تحفيز الطلاب على نقد المسلمات الاجتماعيه أو السياسية، ويقتل فيهم نزعة الاستقلالية والإبداع، فيتم تلقين الطلاب، وهو ما أسماه إيفان ايليتش (بالاستهلاك السلبي)، أي القبول الطوعي الخانع بالنظام الاجتماعي القائم، ويجري تعليم هذه القيم بصورة ضمنية؛ حيث وصفه ايليتش (بالمنهج الدراسي الخبيء) الذي يعلم الطلاب أن يعرفوا مكانهم ويلزموه، فنجد أن السلم التعليمي يمثل عمليه إنتاج صناعي، تلعب فيها المناهج دور القوالب لتنصب فيها عقول الطلاب.
فلا عجب أن عددا كبيرا من المرتقين إلى درجات علمية تم ترفيعهم وفق هذا المعيار وساهموا في إنتاج وتضخيم هذه العملية التي يمكن أن تندرج تحت مسمى التدريس.
ويبدو الوضع منطقيا بالنظر للمجتمع الحالي ككل، ومدى ديناميته وقابليته للتغيير، التنمية، والتقدم. فالسياسة والمناهج التعليمية في السودان ظلت مساحة مستخدمة استعماريا، ومن ثم سياسيا، كما افتقرت إلى مواءمة وانسجام التعليم مع المجتمع المحلي وثقافاته المتعددة، وفي بعض الأحيان، تكاد تكون معبرة وملبية لحاجات الطالب في العاصمة الخرطوم فقط، دون مراعاة لخصوصية والثقافات السودانية المختلفة.
فلا غرابة من ظاهرة الاغتراب عن الواقع التي يعانيها بعض المتعلمين، أو سمك وعلو الجدار الأكاديمي وضعف فاعليته في تطويره لنفسه والمجتمع من حوله، وفشله في إتقان لغة للتواصل مع المواطن غير المختص أو المهتم بالمعرفة الكلية.
لا استنكار على نتاج هذه السياسات التي تبرز في الراهن اليومي بصورة مزعجة على شاكلة السلوك الاجتماعي أو مدى مفارقة الأوراق المستوردة، حقيقة ومجازا، عما هو واقع وملموس. بل يكمن الاستفهام بشكل استنكاري: “إلى متى سنعيد ذات التساؤل ونكتب نفس مضمون هذه المقالات”؟ أو بالأحرى، إلى متى سنظل نكرر وننزعج من هذه التساؤلات في جميع جوانب حياتنا اليومية؟
الأمر الذي يعيدنا مجددا إلى حقيقة ترابط كل جوانب الحياة الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية ببعضها البعض، والنظر بهذه العدسة إلى الراهن الحالي ومدى ضبابيته. ومن ثم الاسترسال في سيناريو الماضي والعوامل المتداخلة التي أفضت إلى هذا الواقع.
لكنه بالضرورة يزيدنا تمسكا وإيمانا بالقيم الثورية التحررية على جميع مستويات الحياة عامة، والمستوى المعرفي الأكاديمي خاصة، كأداة تصلح لأن تكون لها مساهمة فعالة في تحقيق الحرية المعرفية والوصول إلى غايات الثوره السودانية.