تشوين لاي، أول ريئس وزراء لجمهورية الصين (1949 – 1976م) وأحد قادة ثورتها وبناة نهضتها، كان واحدا من الشخصيات الإنسانية التاريخية، من واقع التأثير الكبير الذي مارسه على مجريات الأمور في الصين وفي العالم، في المرحلة المضطربة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإلقاء قنبلتين نوييتين على اليابان، وظهور كتلة الاتحاد السوفيتي، والحرب الباردة، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، متزامنة مع نضالات مريرة لحركات التحرر الوطني حول العالم للانفلات من نير الاستعمار..
عبر أحد الصحفيين يوما لتشوين لاي عن قلقه إزاء ما كان يعتري العالم، آنذاك، من اضطرابات وحروب ونزاعات في كل مكان، وسأله رأيه حولها.. كانت إجابة تشوين لاي العجيبة: أنه لا يشاركه القلق، كان يرى أن الحروب والثورات والانتفاضات والنزاعات هي الدليل على أن الناس في كل مكان غير راضين عن أوضاعهم، غير قابلين بها، وأنهم يتطلعون للأفضل ويناضلون من أجله بوسائل مختلفة، وأن حالة الاضطراب العظيم وقتها تعبر عن حركة البشر والمجتمعات في بحثها عن التوازن، عن العدالة الاجتماعية، وعن الحياة الكريمة، في مواجهة قوى القديم والمحافظة، قوى الاستبداد والقهر والاستغلال.
من الصعب أن يقول سوداني الآن إنه لا يشعر بالقلق جراء تداعي الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية في بلدنا في ظل انقلاب 25 اكتوبر 2021: الاقتتال القبلي، النزاعات الجهوية، الانفلاتات الأمنية، شبح المجاعة الماثل في الريف، التشظي السياسي، توقف الانتقال الديمقراطي، عودة السودان إلى العزلة الدولية، تفجر احتقانات ثلاثين سنة من نظام دولة دينية، لم يكتف فيها حكامها بتجريف مؤسسات المجتمع المدني والدولة والخدمة العامة، فحسب، ولكن تكفلت فيها سياساتهم و”مشروعهم الحضاري” ببعث الحياة أيضا في مؤسسات مجتمعية وسياسية انتهى دورها في حياة المجتمعات الحديثة.
من يشاهد قيادات قبلية تخرج مهددة المجتمع والدولة، ومليشيات مسلحة تجند الشباب بالإغراءات المالية في منتصف النهار، وأعداد من الجيوش تصل إلى ثمانية على الأقل تجوب أنحاء البلاد، وعجز أجهزة الدولة ومؤسساتها عن الالتزام بسيادة القانون، وضعف بائن في القوى السياسية ألجأها إلى طرق صوفية ليس من مهامها العمل السياسي– من يشاهد ذلك لا يمكن لومه على القلق الشديد إزاء مستقبل السودان.
لكن هذه الصورة القاتمة لا يمكن أن تحجب الخلفية الرئيسية التي جرت هذه المشاهد في أعقابها: مشاهد الحشود الشبابية المليونية التي خرجت من كل فج عميق على نطاق جغرافية الامتداد البشري الواسع المسمى السودان، منذ ديسمبر 2019 وتتواصل حتى اليوم، قيم النضال المشترك والتآزر واحترام التنوع الخلاق الذي شكل ثقافة ووجدان اعتصام القيادة على مدى شهرين عظيمين، جسارة وتصميم السودانيين والاستعداد للتضحية التي تحلى بها السودانيون في اصطفافات 30 .يونيو 2019، 2020، 2021 و 2022، والتي أفزعت المستبدين وأبهرت العالم والإقليم من حولنا، الآمال والأحلام غير المحدودة لشباب السودانيين في الحرية والديمقراطية والمدنية.
في الواقع، تتكاثر وتتزايد االمؤشرات والأدلة على أن الثورة السودانية أحدثت بالفعل تغييرا كبيرا في الفضاء العمومي السوداني، ليس أقله هذا الاهتمام الواسع والانخراط الفعلي في قضايا الشأن العام من قبل فصائل عديدة من المجتمع لم يكن اهتمامها وانخراطها بذاك القدر من قبل، على رأسها تأتي فئة الشباب والنساء ومتعلمي الريف والأقاليم. من علامات هذا التغيير أيضا عدد ونوع القضايا المطروحة في الفضاء العام، وعمق النقاشات حولها.
من ذلك دور الجبش في السياسة.. القبيلة وما يتعلق بها من أدوار مجتمعية أوسياسية، الطائفة، الطرق الصوفية، بقايا الدولة الدينية، قضايا المرأة، أوضاع المرأة الريفية، قضايا تنمية الريف وتحديث القطاعات التقليدية. تخضع جميع هذه المؤسسات والمجالات، وهي باستثناء الجيش، مؤسسات ومجالات تقليدية، تخضع اليوم للأسئلة وللفحص وللاختبار بروح ومعارف القرن الواحد والعشرين ومن حاملي هذه المعارف والروح الجديدة.
من ذلك دور الجبش في السياسة.. القبيلة وما يتعلق بها من أدوار مجتمعية أوسياسية، الطائفة، الطرق الصوفية، بقايا الدولة الدينية، قضايا المرأة، أوضاع المرأة الريفية، قضايا تنمية الريف وتحديث القطاعات التقليدية. تخضع جميع هذه المؤسسات والمجالات، وهي باستثناء الجيش، مؤسسات ومجالات تقليدية، تخضع اليوم للأسئلة وللفحص وللاختبار بروح ومعارف القرن الواحد والعشرين ومن حاملي هذه المعارف والروح الجديدة.
في هذه الصراع فإن قدر حاملي مشروع الحداثة السودانية المزيد من التمسك بقيمها والثبات على مبادئها وتعميق المعارف بمعانيها، والحفاظ على استقلالية حداتها، وإكمال الطريق حتى نهايته في بناء أسسها الديمقراطية القاعدية.
مؤسس ومدير مشروع الفكر الديمقراطي والقراءة من أجل التغيير, باحث في قضايا الإصلاح الديني الإسلامي, ناشط مدني ومترجم,