دائما في لقاءات مختلفة مع بعض الأصدقاء بخصوص الوضعية السياسية وفهمها أشير إلى أننا لا يجب أن نفهم السودان من الداخل، أي من داخل شروطنا نحن، وعلينا أن نفهم السودان داخل الوضعية، وهذه الوضعية يجب أن ننظر فيها إلى عدة مؤشرات
* موقع القوى الدولية من الصراع: في جميع حالات ما بعد الثورات، كان الفاعل الدولي مؤثر إلى حد كبير، والفاعل الدولي هنا نعني به القوى الحيوية المؤثرة وذات المصالح والنفوذ (الصين/ روسيا/ الولايات المتحدة).
ويمكن أن نستبعد الصين من هذه المعادلة؛ فهي حليف لأي نظام طالما هناك مصالح طويلة المدى، لذلك ستتقبل بوضعيتها الحالية في الصراع، ولن تؤثر إيجابا أو سلبا، لكن يمكن أن تدعم أعداء أعداءها إن هم اهتموا بها، وآخر تصريح للسفير الصيني بالخرطوم كان كافيا لفهم موضعة الصين في السودان .
بعد النظر إلى موقع هذه الدول: يمكن أن ننظر إلى موقع الفاعل الإقليمي، في حالات الربيع العربي، كان الصراع الخليجي/ الإيراني، والإيراني/ الإسرائيلي، والتركي/ الخليجي مؤثر.
إلا أن في حالة السودان، ولأن النظام سقط بعد ترتيب المشهد وأثناء ترتيب المشهد، فسنكون مجرد ملحق أو نقطة مهمة لأصحاب العمق الاستراتيجي، لذلك يمكن أن نستبعد إيران/ تركيا، ونحتفظ بموقع مصر؛ لأن السودان عمق استراتيجي، ومن المستحيل أن يتم إبعاد مصر من أي طرف، سواء متفق أو مختلف معها حول السودان. الفاعل الثاني هو الكيان المحتل، لقد ظل السودان موقع قلق منذ 1970 وطالما كان جزءا من هامش الصراع الإسرائيلي في المنطقة.
الخليج بالنسبة للسودان، وأعني به هنا السعودية والإمارات فقط، دائما كان حديقة خلفية ولو أن وضع السعودية يختلف؛ فهناك ارتباط تاريخي وحاد أيضا، والعلاقة معها اجتماعية/ شعبية، ولكن مع الإمارات أعيد تعريفها من خلال العداء للحركة الإسلامية والإخوان، ولكن تم تعريف هذا الارتباط من خلال حرب اليمن.
* المؤشر الثاني: على من يؤثر السودان؟ كان وضع السودان الجغرافي مؤثرا في ارتباطه مع القوى الإقليمية والاقتصاد والسوق العالمية، فمنذ حملات كشوفات منابع النيل كانت هذه المنطقة الجغرافية مؤثرة، سواء في دخول الإسلام أو في نشوء حركات التحرر، أو حتى المنظومات الجهادية، أو ظهور المليشيات المسلحة، لذلك سيكون من المهم أن ننتبه لأثر السودان .
يمكن لنا العودة بخصوص أثر السودان في المنطقة إلى خطاب عبد الفتاح البرهان، سواء أمام الجمعية العمومية أو في القمة العربية الأخيرة، بالإضافة إلى وجود السودان وقدرته الفعلية على تغيير أنظمة دول، لذلك نجد هناك تكثيف زيارات من بعض هذه الدول للسودان، في وضعية كالتي كان يعيشها النظام السابق أثر على سياقات دول مثل تشاد/ إفريقيا الوسطى/ جنوب السودان.
قد تكون الزيارات مقلقة (زيارات الوفود الأجنبية)، وهي فعلا مقلقة، ولكن دعونا نفكر في المؤشر الثالث، وهو ما الذي تريده الدول التي أرسلت وفودها، والدول التي سترسل خلال هذا الأسبوع، دائما علينا أن نفكر خارج منطق فهمنا، وننطلق من منطق مغاير، مثلا التحول في هذا المشهد بصورة كلية بدأ بعد زيارة (عباس كامل)، هذه الزيارة فتحت الباب أمام مجموعة من الأسئلة وإعادة ترتيب للمواقف، تلاها زيارة آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، الذي خرج باتفاق يضمن له تعبئة أخرى لسد النهضة.
بعد ذلك سيكون أمام وزير الخارجية الروسي، لافروف، معرفة من الطرف المتحكم فعليا في تعطيل مصالح روسيا بأفريقيا الوسطى، فخسارات مجموعة فاغنر التي فاقت 35 مقاتلا مقلقة بالنسبة لهم، بالإضافة إلى مقتل مبعوث روسي في غارة جوية حلقت طائراتها من السودان.
بجانب ذلك تبدو زيارة المبعوث الأفريقي أهم للبرهان؛ فالسودان معلق العضوية وحق التصويت في الاتحاد الأفريقي، الأمر الذي يمكن ربطه مع زيارة وزير خارجية الكيان الذي سيحاول أن يفتح ملف أن يصبح مراقب خارجي، وقد يكون الأمر في إطار المساومة .
الاتحاد الأوربي، في نهاية الأمر وبكافة مبعوثيه، مجرد تابع للولايات المتحدة الأمريكية بخصوص السودان، وهو ما ظهر في الإحاطات التي قدمت في جلسة إحاطة فولكر لمجلس الأمن الأولى والثانية أيضا. ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية ليس تحولا ديمقراطيا كما تدعي، ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية الاستقرار حاليا، بل هي الشرعية التي من خلالها ستتعامل مع النظام في الخرطوم، والذي يجب أن يتسق مع وجودها في المنطقة .
كل ذلك وتعامل القوى السياسية مع الموقف المصري كان ضربا من ضروب الغباء السياسي، القوى السياسية، للأسف، ضعيفة وهشة وهزلية، وهي داخليا غير مستقرة، وربما يقود الاتفاق السياسي الإطاري إلى تفكك المفكك.
باحث و أكاديمي