صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

“سلام جوبا”.. تجديد أم تبديد؟

ياسر عرمان

عرمان فرحا باتفاق جوبا.. إرشيفية

شارك هذه الصفحة

قضيتان هامتان سيطرتا على أجندة نقاش السودانيين في الفترة الانتقالية بعد سقوط نظام البشير، هما: البرنامج الاقتصادي الاسعافي المقدم من قبل (قوى الحرية والتغيير) الذي تجاوزته حكومتي الفترة الانتقالية، واتفاق السلام الموقَّع بجوبا في أكتوبر ٢٠٢٠، بين حكومة الفترة الانتقالية وفصائل مسلحة، عسكرية وأخرى مدنية غير مسلحة، في مناطق ليست بها حروب ونزاعات، والأخير هو محور السطور التالية.

منذ البداية، رفض قطاع غير هيِّن الاتفاق، وحلل بنوده وشرحها، ووصل بذلك إلى قناعة أن هذا الاتفاق يهدد الوحدة الوطنية والسلام نفسه، وبعد الانقلاب في 25 أكتبر، انضم لهذا القطاع، قطاع آخر كبير من الذين صاغوا ووقعوا الاتفاق أنفسهم، ما فتح الباب واسعا أمام إلغائه، إلا أنّ ما يرشح من وثائق واتفاقات وتفاهمات، تُشكل أساس التسوية السياسية المقبلة، يمثل ما يشبه التراجع عن الإلغاء، ويمضي نحو ترقيعه، دون المساس بجوهره المفارق لمبادئ السلام والديمقراطية.

ولأن صراع السُّودانيِّين، بعد ٥٢ عاما من الدكتاتوريات، يجب أن ينحصر في الديمقراطية، إلا أن اتفاق السلام، بمضمونه الحالي، يشكل خطرا وتحديا على قضية الديمقراطية نفسها، والتي هي محور الصراع، إذ أنّه في المجمل، يقمط آخرين من أقاليم دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق، حتى بعد إلغاء مسارات أخرى تضمنها الاتفاق، في الوسط والشمال والشرق، لكن جوهره يصادر حق مواطني مناطق الحرب في تمثيل مناطقهم في الفترة الانتقالية، وبنود الاتفاق تعتبر حصريا، قادة الفصائل المسلحة في هذه المناطق، هم الممثلين الشرعيين لأقاليمهم، دون النظر لاعتبارات أن هناك قوى مدنية ظلت تنوء بحمل النضال السلمي الجماهيري حتى سقوط النظام، وبهذه الصورة، فإن هذه القوى، إن أردات الوصول للسلطة، فعليها أن تذهب نحو المركز، وتقتسم الكيكة التى أعطيت سلفا لأحزاب وتجمعات مركزية، هي جزء منها.

إرشيف

ولأنَّ الاتفاق لم يذهب أكثر من أن يحل شكليا مشكلة اختلال ميزان السلطة في السودان، باستوزار قادة الكفاح المسلح بصورة رئيسية بأقاليمهم وبالمشاركة مع الآخرين في المركز، ومضى بجزئيته هذه متجاوزا قضايا اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية، هي قضايا السلام نفسها، وظهر وكأنما أقطابه أرادوا له ألا يكن سلاما شاملا وعادلا، وفوق ذلك مستداما، وهذا ظاهر في الطبيعة البنيوية لبنود الاتفاق نفسه.

انقلاب ٢٥ أكتوبر شكل تحديا أساسيا وامتحانا عمليا لهذا الاتفاق، وظهرت عورات الاتفاق مباشرة بعد تكوين المجلس السيادي الانقلابي، فقد وضح أنّ السلطة الانقلابية أخذت من بنود ونصوص اتفاق السلام أسوأ ما فيه، بابتذال الصراع حول قضية الديمقراطية إلى صراع حول السلطة والتمثيل، فقد اقتصر تمثيل الأقاليم على القوى التي وقعت على اتفاق السلام، فلا غرو في ذلك، إذ أن هذه القوى هي التي مهدت لهذا الانقسام، وهي بالأساس حين توقيعها على السلام، كانت تنظر إلى أن المكون العسكري هو الذي يحقق لها أهدافها، وهو الطرف الذي يملك القوى، وتفترض في المقابل نفسها ذات قوى، وتوقيعها كانت ترى فيه أنه مع العسكريِّين وليس مع حكومة الشراكة، وبالتالي هي تجاوزت أي دور للقوى السياسية والاجتماعية المدنية التي كانت هي المحرك الأساسي للنضال الجماهيري ضد سلطة الإنقاذ، وفي الحقيقة  كان هذا الصراع يدور داخل قوى التغيير نفسها حول من هو الذي أسقط النظام: النضال السلمي الجماهيري أم النضال المسلح؟ وفي ٢٥ أكتوبر حسمته قوى سلام جوبا، بأنها هي التي أسقطت النظام بإرهاقه وإضعافه عسكريا، وبالتالي نصبت نفسها هي قوى الثورة الحقيقية، مدعومة في ذلك بدعم العسكر لها، وببنود اتفاق سلام، خولها صلاحيات وأعطاها امتيازات لا يمكن أن تفرط فيها.

ولكون أن الاتفاق ينطوّي على مسالب كثيرة، أهمها أنه منذ البداية كان يهدد السلام نفسه الذي قام من أجله، فإنّ القوى الأساسية صاحبة المصلحة في إحلال السلام والمكتوية بنيران الحرب، لم تر، بعد عامين من سلام جوبا، أي جديد طرأ على حياتها، فلا يزال النازحون في مناطق نزوحهم والأمن معدوم، ومناطقهم الأصلية محتلة من قبل مستوطين جدد، ولم يقدم أي من الذين ارتكبوا بحقهم الجرائم إلى العدالة، فإنهم الآن في صدارة القوى الرافضة لهذا الاتفاق وهو ما يُغري ويوجب إلغاء الاتفاق وليس ترقيعه.

ولعل أسوأ مافي تطورات قضية السلام، بعد توقيع الاتفاق، هي أن هذه القوى وبما يشبه الاتفاق، وعلى طريقة الحق الذي يراد به الباطل، وضعت حصان المال أمام عربة الترتيبات الأمنية، صحيح أن هذه المال هو عصب هذه العملية، إلا أنه وحتى الآن، لم يرد ما يشير إلى وجود رغبة حقيقة من أطراف اتفاق سلام جوبا، للمضي في هذه المرحلة المهمة من عمر أي اتفاق سياسي، وهي الفيصل بين اتفاق سلام حقيقي وآخر، لكن هذه القوى، تريد للحرب أن تضع أوزارها، وتتحول لصراع بالوكالة داخل الخرطوم يحسم بقوة السلاح، بصورة غير مباشرة، ويؤكد ذلك، أن ما من قائد من هذه القوى ووجه بسؤال في قضية ما، إلا وتحسس سلاحه، ورفع شعار، إما التسوية الشاملة، أو الفوضى الخلاقة، وهذا هو سبب البطء في تنفيذ الترتيبات الأمنية، على علاتها في اتفاق جوبا.

والآن؛ إن لم يكن كل هذا محفزا على تبدِّيدُ اتفاق سلام جوبا؛ فإن فرص تجدِّيدهُ، شبه المعدومة، تنطوي على مخاطر جمَّة، ربما ستفتح الباب لمزيد من الصراعات التي تندلع بسبب أن تجاوز هذا الاتفاق لقضايا السلام الأساسية، وعدم مخاطبة جذورها، وفوق ذلك، حجم الصراعات وتطورها النوعي الذي أحدثته تطبيق بنوده.

لربما في الوقت الحالي، فإن أي اتجاه للمضي في تعديله يطعن في سلامة نوايا، أطراف العملية السلمية، ويؤكد ما قاله القيادي بقوى الحرية والتغيير، بشري الصائم، بندوة بالخرطوم (الاثنين، ٢٨ نوفمبر) حول أن الإدارة الأمريكية ترى تقديم الاستقرار السياسي على الديمقراطية، وهو ما يؤشر إلى أن الإرادة الوطنية ليست هي الغالبة، إنما الغلبة للإرادة الخارجية التي تملئ ما تريد، حتى وإن كان به ما يهدد وحدة وسلامة الوطن استقلاله مستقبلا.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *