صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

إسرائيل وأساطيرها

شارك هذه الصفحة

غرشوم غورنبرغ

نشر هذا التحليل في النسخة العربية من مجلة (فورين بوليسي، مايو- يونيو 2008)، ونعيد نشره هنا من أجل معرفة أفضل بإسرائيل التي أصبحت مفردة سياسية يومية في حياتنا، وذلك بفضل الإعلان المفاجئ عن اقتراب توقيع اتفاق سلام بين قائد الانقلاب 25 أكتوبر وإسرائيل.

بعد ستة عقود من تأسيسها، ليست الدولة اليهودية سريعة العطب بقدر ما يزعم مؤيدوها، ولا قاسية ماكرة بقدر ما يتخيل منتقدوها. لكن إذا أرادت إسرائيل أن تستمر في تحدي المعوقات، يجب أن تواجه أولا أساطيرها.

إسرائيل ديمقراطية ناجحة

نوعا ما. بدأت إسرائيل دولة فقيرة دمرتها الحرب، ويتدفق إليها اللاجئون اليهود من أوروبا والعالم العربي، وتحولت قوة عسكرية إقليمية تتفوق على جيرانها في إجمالي الناتج المحلي للفرد. كما استطاعت هذه الدولة التي كانت غير عادية بين دول ما بعد الحرب العالمية الثانية، أن تحافظ على نظام برلماني طوال 60 عاما من دون انقطاع. تؤدي مكانة إسرائيل بوصفها الديمقراطية الوحيدة ذات الصدقية في الشرق الأوسط، دورا أساسيا في تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة وعلاقتها الودية بشكل عام مع أوروبا.

 لكن هل تعمل تلك الديمقراطية كما يجب؟ تنتخب إسرائيل قادتها. وفي بعض الأحيان تنشر صحافتها التي تتمتع بحرية كبيرة انتقادات قد تعتبر مناهضة لإسرائيل في بلدان أخرى. ويتركز الجزء الأكبر من تلك الانتقادات على النظام غير الديمقراطي في الضفة الغربية: يستمتع المستوطنون اليهود بكامل حقوق المواطنين الإسرائليين، في حين يقتصر الحكم الذاتي الفلسطيني على الجيوب.

داخل إسرائيل تعمل الديمقراطية لكنها هشة. وفي غياب دستور مكتوب، عهد إلى المحكمة العليا الناشطة وضع الحقوق المدنية، بدءا من قرار شكل علامة فارقة عام 1953 ومنع الحكومة من إغلاق الصحف إلى حكم صدر العام الماضي (2007) ويمنح الأزواج المثليي الجنس حق تبني أولاد. غير أن موقف المحكمة ضعيف. يريد البعض في إسرائيل أن يحد الكنيست، أي مجلس النواب الإسرائيلي، من الصلاحيات الممنوحة لها لإبطال القوانين أو الحكم أو الحكم في المسائل الأمنية، أو النظر في قضايا حقوق الإنسان.

نقطة الضعف الأساسية الأخرى هي وضع الأقلية العربية التي تشكل خمس السكان. رسميا يتمتع العرب بحقوق متساوية، لكن أعدادهم قليلة جدا في الخدمة المدنية، وتحصل البلديات والمدن العربية على تمويل أقل من ذاك الذي تحصل عليه البلديات اليهودية من الحكومة المركزية. ويملك المجلس الوطني اليهودي نحو ثمن أراضي البلاد، وسياسته القائمة على تأجير لليهود فقط هي في صلب معركة قانونية طويلة.

الأحزاب العربية التي تشغل 10 مقاعد فقط من أصل 120 مقعدا في الكنيست، مستبعدة باستمرار من الائتلافات الحكومية، ولا يؤدي هذا إلى إقصاء العرب من السلطة فحسب، بل يزيد كثيرا من صعوبة تشكيل ائتلافي أكثري، وهذا سبب محوري ونادرا ما يتم الانتباه إليه، وراء عدم الاستقرار المزمن الذي تعانيه الحكومات الإسرائيلية…

إسرائيل دولة يهودية

ليس كما يخيل لنا. في البلدان الغربية، تعتبر صفة “يهودي” عادة فئة دينية، تماما مثل “الكاثوليكي” و”المسلم”، وهكذا تبدو تسمية “دولة يهودية” شبيه بـ “جمهورية إسلامية”.

غير أن الصهيونية- الحركة السياسية التي أنشأت إسرائيل- ولدت من قومية القرن الـ 19، وعرّفت اليهود بأنهم مجموعة إثنية، أي أن اليهودية هي جنسية شأنها في ذلك شأن الجنسية الروسية أو الفرنسية. وقد حول الصهاينة الأوائل، مستلهمين من الحركات القومية المعاصرة الأخرى، التطلع اليهودي التقليدي إلى العودة إلى أرض إسرائيل (المعروفة أيضا بفلسطين) إلى برنامج قومي حديث. كان اليهود بحاجة إلى إعادة إحياء لغتهم التاريخية، لكن الديانة كانت من مخلفات الماضي، وسيلة قديمة للحفاظ على الهوية الإثنية في المنفى.

الغالبية اليهودية العلمانية في إسرائيل هي وريثة ذلك المفهوم. بالنسبة إلى النخبة العلمانية في إسرائيل، أن تكون يهوديا يعني أن تتكلم العبرية وتعيش في الأرض اليهودية وتنتمي إلى المجتمع الإسرائيلي. العُطل اليهودية هي عُطل وطنية، تتم تمضيتها في المشي في الجبال أو على الشاطئ أو في الخارج، وليس في كنيس.

الناحية الثيوقراطية في نظام الحكم الإسرائيلي هي إلى حد كبير من مخلفات القانون العثماني. يخضع الزواج أو الطلاق للسلطات الدينية، وهكذا لا يستطيع اليهود الزواج إلا من خلال الحاخامية التي تديرها الدولة. يجب أن يتزوج الكاثوليك في الكنيسة، ولا يمكنهم أبدا أن يطلقوا.

ما عدا ذلك، سلطة رجال الدين محدودة. لن تضع العلمنة التامة حدا للانقسام الحقيقي في المجتمع، وهو انقسام إثني بين اليهود والعرب، وخير مثال على ذلك الخدمة العسكرية المعممة التي هي جزء محوري من الهوية المدنية. لكن العرب معفيون منها. يعتبر العرب أنفسهم مواطنين فلسطينيين في إسرائيل وليسوا إسرائليين، إذ لم يتم تأسيس هوية إسرائلية جامعة ودمج العرب في الكيان الأساسي، سيطالبون أكثر فأكثر بحقوقهم كأقلية وطنية.

ولدت إسرائيل من المحرقة

كلا. ولدت إسرائيل على الرغم من المحرقة. تصطحب كل شخصية أجنبية مرموقة تزور البلاد إلى ياد فاشيم، المتحف التذكاري الرسمي للمحرقة، وتبدأ الجولة بعروض عن فظائع معسكرات الاعتقال وصولا إلى إنشاء الدولة اليهودية. يعكس التركيز على المحرقة الصدمة العاطفية التي لا تزال هذه الفظاعة تسببها لدى اليهود، ويسلط الضوء أيضا على الرسالة السياسية التي تعتبر أن اليهود لا يستطيعون أن يكونوا بأمان إلا في دولتهم.

لكن الرسالة الإضافية هي أن إسرائيل أنشئت ردا على الإبادة التي ارتكبت بحق اليهود في أوروبا. إنه خطأ تاريخي، وترويجه مكلف سياسيا بالنسبة إلى إسرائيل. بدأت الصهيوينة كحركة سياسية منظمة عام 1897 قبل عقود من سيطرة النازيين على السلطة في ألمانيا، والهجرة اليهويدة الحديثة إلى فلسطين بدأت قبل ذلك، ليس فقط من أوروبا، إنما أيضا من اليمن وآسيا الوسطى وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي. رأى الصهاينة الأوائل في العداء للسامية إثباتا على أنه في عصر الدول- الأمم- يحتاج اليهود إلى دولة- أمة خاصة بهم. لكنهم بنوا خططهم انطلاقا من انتقال اليهود من أوروبا إلى فلسطين. وهكذا تحول اليهود من أقلية صغيرة إلى غالبية ساحقة في البلاد.

عام 1939 كان هناك 8,3 مليون يهودي في الأراضي التي خضعت لحكم دول المحور. لقي ستة ملايين مصرعهم، وتركت المحرقة حركة الاستقلال اليهودية يتيمة بعدما أبيد المصدر الأكبر الذي كان يؤمن لها الدعم والمهاجرين. وكانت الدولة التي تأسست أضعف بكثير من الدولة التي كان يمكن تأسيسها لولا المحرقة.

عندما تجعل إسرائيل من المحرقة ركيزة علاقاتها العامة، تدعم من غير قصد الحجة العربية التي تعتبر أن الفلسطينيين يدفعون ثمن خطايا أوروبا، وهي جدلية تهدف إلى تقويض شرعية إسرائيل كوطن يهودي، وتحول الدعم الغربي نحو الفلسطينيين.

لكن المحرقة صاغت الجانب البسيكولوجي في إسرائيل، فقد ولدت الانطباع بأن اليهود مهددون باستمرار بالإبادة.

وجود إسرائيل في خطر

لم يعد كذلك. عندما أُعلنت إسرائيل في 14 مايو 1948، رد جيرانها العرب باجتياحها. قال أمين الجامعة العربية، عبد الرحمن عزام، “ليس عددهم (اليهود) مهما، سندفع بهم نحو البحر”.

بدلا من ذلك، سرعان ما تداعت الجيوش العربية غير المنظمة وغير المتمرسة، وبحلول نهاية الحرب، كانت إسرائيل قد باتت تسيطر على مساحة من الأراضي أكبر من تلك التي عينتها لها الأمم المتحدة. قبل حرب الستة أيام في يونيو 1967، وبينما كانت الدول العربية تحشد قواتها عند الحدود الإسرائيلية، تخوفت إسرائيل من محرقة ثانية، غير أن النصر المدوي الذي حققته إسرائيل أظهر أنها أصبحت القوة العظمى الإقليمية، وقد ثبتت مكانتها هذه عندما صدت الهجوم المفاجئ الذي شنته مصر وسوريا في أكتوبر 1973. بعد خمس سنوات ونصف السنة، وضع اتفاق سلام مع الرئيس المصري أنور السادات حدا للعداوة مع مصر التي كانت مصدر الخشية الأكبر لإسرائيل.

اليوم ليس هناك تحالف عسكري تقليدي يضاهي، بالحد الأدنى، التحالف الذي قادته مصر. فسوريا التي تركها السلام الإسرائيلي- المصري في حالة عزلة، تطبق وقفا لإطلاق النار بحذر منذ العام 1974، وخوفا من مخاطر المواجهة الكاملة، دعمت دمشق قوى ضمن الدولة، مثل حزب الله في لبنان وحماس في الأراضي الفلسطينية اللذين يلجآن، إلى جانب مجموعات مليشياوية أخرى، إلى تكتيكات إرهابية وإطلاق الصواريخ. وقد أدت تلك الأساليب إلى مقتل الكثيرين من المدنيين الإسرائليين. لكن على المستوى الوطني، هي أشبه بمرض مزمن وليس بوباء قاتل.

حماس تسعى إلى دمار إسرائيل

في أحلامها.  يعرِّف الميثاق التأسيسي لحماس الذي وضع عام 1988، فلسطين بأنها “أرض وقف إسلامي لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة”. وتشمل بحسب هذا التعريف إسرائيل قبل 1967. وبحسب الميثاق، يجب تحرير فلسطين بكاملها عن طريق الجهاد. الديبلوماسية “مجهود لا طائل منه”. تحول الوثيقة أهداف القومية الفلسطينية الرديكالية إلى حقائق دينية أزلية.

لكن مع مرور الوقت، تغيَّرت حماس، لم تتخل عن ميثاقها لكنها توقفت عن الإشارة إليه. لقد تحولت الحركة تدريجيا إلى تنظيم إسلامي متشدد إنما أكثر برغماتية. ومن المعالم الأساسية لهذا التحول قرارها المشاركة في انتخابات السلطة الفلسطينية، على الرغم من أن السلطة ولدت من اتفاقيات أوسلو مع إسرائيل. في برنامجها الانتخابي (2006) ركزت حماس على تحرير الأرض التي احتلتها إسرائيل عام 1967، مع إصرارها في الوقت نفسه على أنها لن تتخلى عن المطالبة بإسرائيل ما قبل 1948 وحق الفلسطينيين بالعودة.

يشبه فعل التوازن هذا إلى حد كبير التغيير الذي عرفته منظمة التحرير الفلسطينية قبل جيل، عندما اعتمدت “الاستراتيجيا الممرحلة” لعام 1974- الاستعداد لإنشاء دولة في جزء من فلسطين مع الاستمرار في المطالبة بالباقي.

بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، كانت هذه طريقة لتبرير المشاركة في الديبلوماسية حول مستقبل الأرضي المحتلة، وشكلت خطوة نحو الاعتراف بإسرائيل. اليوم هناك اختلافات في وجهات النظر داخل حماس حول ما إذا كان يجدر بها التفاوض مباشرة مع إسرائيل أم لا، غير أن الحركة تبدو مستعدة لقبول حل الدولتين الذي يفرضه الأمر الواقع، ووقف طويل الأمد لإطلاق النار، شرط ألا تكون مضطرة إلى الاعتراف صراحة بإسرائيل.

لا يعني هذا أن حماس أصبحت معتدلة، فهي لم تتخل عن “النزاع المسلح” بما في ذلك الهجمات على المدنيين. وقد تكون مستعدة لتقبل وجود إسرائيل لكنها لم تتفاوض مع نفسها بعد حول طريقة الإعلان عن ذلك. غير أن التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل هو أمر ممكن.

اللوبي الإسرائيلي يسيطر على السياسة الأمريكية

أبدا. في كتابهما (The Israel Lobby and u.s Foreign Pogicy) (اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية)، يحمل جون جيه مرشايمر وستيفن إم وولت اللوبي الإسرائيلي، إلى حد كبير، مسؤولية السياسة الأمريكية، ليس فقط حيال إسرائيل، إنما حيال باقي الشرق الأوسط. قد يكون عيب الكتاب الأكبر أنه يشكل دعاية غير مقصودة لمجموعة اللوبي الأساسية، (لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية” (أيباك) المتلهفة لإثبات نفوذها.

صحيح أن أيباك تنجح في التأثير في الكونغرس، لكن تأثيرها في السياسات محدود. ففي ظل الرئيس ريغان، خسرت معركتها لمنع بيع طائرات الاستطلاع “أواكس” للسعودية، ولم تستطع منع بوش الأب من استعمال ضمانات القروض كوسيلة للضغط على إسرائيل في موضوع المستوطنات في الضفة الغربية، وفي ظل بيل كلنتون، ساهمت أيباك في الدفع باتجاه إقرار قانون لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، مع أنه كان من شأن هذا الأمر أن يؤدي إلى تعطيل محادثات السلام. لكنه كان نصرا فارغا: فقد نص القانون في نسخته النهائية على منح الرئيس حق إبطال القرار، وقد استعمل كلنتون وجورج دبليو بوش هذا الحق باستمرار لتفادي الخطوة. عام 2006، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها أيباك لإقرار نسخة من قانون مكافحة الإرهاب الفلسطيني كانت لتؤدي إلى قطع العلاقات الأمريكية- الفلسطينية، اعتمد الكونغرس الأمريكي قانونا أكثر اعتدالا.

القول بأن أيباك هي التي تحدد السياسة الأمريكية ينضوي على الكثير من التبسيط، وهذه هي المشكلة بالضبط. وضعت كوابح السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد حرب الستة أيام في مذكرة تسلمها رئيس الجمهورية آنذاك جونسون من مستشاره السابق للأمن القومي جورج بوندي. كتب بوندي أن الولايات المتحدة ملتزمة ببقاء إسرائيل، إنما أيضا بالعلاقات الجيدة مع الدول العربية الموالية للغرب التي تريد من واشنطون أن تتقلب على إسرائيل. إن الحفاظ على قوة إسرائيل يوفر على الولايات المتحدة عناء الدفاع عنها مباشرة. لكن بوندي لمح إلى أنه في المدى الطويل، حمل العرب والإسرائيليين على إرساء السلام هو السبيل الوحيد لحل التناقضات في السياسة الأمريكية، ومنذ ذلك الوقت، تتأرجح الإدارات الأمريكية بين هذه المشاغل المتضاربة…   


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *