صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

حراك ديسمبر.. كيفية ضمان استمراريّة المقاومة ومواجهة عنف الدولة!

شارك هذه الصفحة

  • توطئة:

   “قدَرنا أننا الجيل الذي سيدفع تكلفة آخر الانقلابات العسكريّة، ولن نؤجِّل هذه المعركة”.

بهذه النظرة الثاقبة، والنبرة المسؤولة، والمنظور النقديّ الثائر، واللغة الجادة، عقدت جماهيريّة وشعبيّة- والشبابيّة منها بالأخص- حراك ديسمبر عزمها الكامل، وبمنطق الالتزام الذاتيّ، على ضرورة قطع آخر حبال الأنظمة الانقلابيّة وقوى الاستبداد والإكراه العسكريّ عن صيرورة السودان تاريخيّاً، وثقافياً، وسياسياً، واجتماعياً وحتى فكريّاً ومعرفيّاً، بل يعتزم الحراك جاهداً إلى ضرورة- من أهم أهدافه- عمل إلغاء نهائيّ للعقليّة العسكريّة عن الانخراط في دهاليز الحُكم والسياسة بمعنى إدارة الدولة، وبناء المجتمعات، لذا كم من المنطقيّ وبالنتيجة، أن يستمر الحراك ملتهباً، ولو بمستوياتٍ متدرجة بين العلو والانخفاض أسبوعياً؛ أن يواصل في مشواره الحيويّ الديناميكيّ بكل صمود وتحد صوب تحقيق أهدافه التي قام من أجلها، وبلوغ غاياته الكبرى التي لطالما ثارت الجماهير رغبةً وإرادةً فيها، مع الوعيّ أن الانتقال من وضعيّة عنيفة إلى أخرى جديدة ثوريّة مختلفة، عمليّةٌ ديناميكيّة مُعقدة، وكم تتسم بخصيصة الحيويّة، و”الاستمراريّة” كفعل وصفة وصيرورة، وسياق زمكانيّ.

إنما كم أنها– الاستمراريّة- تحتاج إلى العمل الدؤوب بالضرورة، لاستجلاء ضمان مواصلة المقاومة أمام كافة التحديات والصعاب، والصمود في وجه كل المواجهات والخطوب، كالصراعات الساخنة المحتدمة هذه الأيام بين قوى الانقلاب وأصوات الشارع الثائرة، وقوى خارجية وآخرين، فضلاً عن ضرورة إبقاء شعلة الغضب الشعبيّ وحلم الجماهير في التغيير، حاميّة ويقظةً على الدوام، وذلك على صفيح رغبتهم الملحة والأكيدة في بناء وتحقيق ومعايشة، مثال ذلك التغيير الثوريّ المنشود؛ حيث إلغاء عقليّة عسكرة المجتمعات، وكل معززات الاستبداد، مقابل العيش تحت ظلال نموذج دولة مدنيّة ديمقراطيّة مستقلة عادلة، ومجتمعات حُرة متواطنِة متعايشة سلمياً، على أقل تقدير.

ومن أقوى مأثورات الحراك الثوريّ القائم، لتجليّ تلك الرغبة والسعيّ والإرادة الفعليّة وانعدام أضعف شعرة للتراجع، والاستسلام عن المبتغى نحو التغيير المطلوب إحداثه بالانتقال من حالة الانتفاضة وتغيير رؤوس الأنظمة السياسيّة فقط، إلى وضعيّة الثورة الشاملة المتكاملة بالمفهوم المعرفيّ: “الشعب أقوى والردة مُستحيلة، العسكر للثكنات والجنجويد ينحل، الجوع ولا الكيزان، السلطة سلطة شعب”. وكم صدحت الأصوات بها عالياً، حتى عندما حدث انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021؛ أن الشرط العسكريّ مرفوض بالمطلق، وألا وهن ولا تراجع عن مواصلة المقاومة، ولو مقابل تقديم أغلى التضحيات، وأعلى تكاليف ممكنة كأرواح شهداء الحراك، والجرحى، والمفقودين والمعطوبين وغيرهم، من مختلف الشرائح والأجيال والأحلام، والمناطق.

وباستصحاب شرارة هبة سبتمبر 2013، تأججت جمرة الغضب الشعبيّ للمواطنين السودانيين لهذا الحراك، منذ أكثر من أربع سنوات مرهقة، مثيرة، عسيرة، وجافة مع تذكر بعض الثمار التي أتت خجولة، ومنقوصة، بل إن جزءا منها اتضح لاحقاً أنها فاسدة ومعطوبة، وغير ذات جدوى أكثر بكثير من محاولة إظهار نبرة الاحتفاء بها كثمرات أرواح غاليّة ذهبت مقابلها. حيث تفجّر ذلك الغضب أواخر ديسمبر 2018، بحالة سخط عام، وخطوط احتجاجات متفرقة، هنا وهناك، ثم وريداً رويداً تحوّلت- حالة الغضب والاحتجاج- إلى انتفاضةٍ شعبيّةٍ جماهيريّة هائلة بزيادة حالةٍ من الثوران والوعي الجمعيّ الجماهيريّ لجموع المواطنين السودانيين والسودانيات على طول وعرض وعمق البلاد، قبل أن تزداد في الضخامة- كماً ونوعاً- يوماً بعد آخر إلى أن استطاعت، نهار الحادي عشر من أبريل 2019- عبر عدة آليات مقاومة أهمها اعتصام 6 أبريل أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم- إسقاط نظام استبداديّ انقلابيّ عسكريّ اغتصب إرادة الشعب وقمع صوته الحُر يومَ الثلاثين من يونيو 1989، واستولى على كرسي سلطته ما يقارب الثلاثة عقود؛ من دكتاتوريّة انتجت الكثير المثير من الإكراهات، والظلم، والحروب، والأزمات؛ أكثرها جوراً، وأشدها نكايةً، وهي معلومة لدى الجميع: انفصال الجنوب، الحصار الاقتصادي والسياسي والدبلوماسيّ للبلاد كدولة ومجتمعات وأفراد، حروب بالوكالة، اغتيال جون قرنق، اختفاء خط هيثرو، موت مشروع الجزيرة، حروب جنوب كردفان والنيل الأزرق، وكارثة مناطق دارفور بمأساويتها، وتراجيديتها السوداء الممتدة والحيّة حتى الآن.

وخلال هذا المسير الطويل، أي منذ أواخر 2018 إلى هذه اللحظة، ورغم فترة حُكم المجلس العسكريّ، وحكومة د. حمدوك الأولى والثانيّة، وانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، ظلت/ ما تزال شعلة الحراك الثوريّ الشعبيّ مشتعلةً، بل بقيت لاهبةً بين علو الغضب- بمختلف آليات النضال المألوفة والمستلفة منها، والجديدة المبتكرة- وخفوضه أسبوعيّاً، وفق جدولة تعدها لجان المقاومة السودانيّة وتنسيقياتها مع بقية قوى الاحتجاج وفاعلوا التغيير، في كل أرجاء البلاد، رغم الهجمات الشرسة، والقمع الحادّ، وكافة أشكال العنف، والعنف المفرط من قِبل آليات النظام الانقلابيّ الأمنيّة، والعسكريّة.

وتتمظهر أيضاً، حالة الجماهيريّة الواسعة في الصمود لمواجهة النظام المخلوع، قبل وأثناء حراك ديسمبر، فيما أطلقهُ تجمع المهنيين السودانيين أيام بزوغ شمسه، وأيام مواجهته الشرسة للنظام البائد حتى سقوطه في نهار أبريل 2019؛ حيث أعلنها داويةً أمام الحشود المؤيدة له بلغةٍ ملؤها تحد ومقاومة: “نستطيع معاً أن نعيد بناء كل شيء، والذي يقف أمام ذلك، هو هذا النظام الذي يجب أن نعمل جميعاً على أن يرحل فوراً”.

الآن، وفي ظل النظام الانقلابيّ الحاليّ، كم يتجلى حضور، وواقعيّة وحيويّة وحقيقة هذه المقولة، ولكن هذه المرة، كأن وينبغي بالضرورة، قوى الحراك الثائرة بمختلف أنواعها وأجسامها الصامدة في وجه الطغاة والعسكريّة، هي من يجب أن تعلنها جهوراً الآن؛ في هذه اللحظة الراهنة بالتحديد بقوةٍ وشجاعة. كأنها يجب أن تعيد إعلان هذه السرديّة المشحونة بالتحدي وقوة روح النضال الجماعيّ؛ إذ حالياً كم يواجه جماهير الشعب السودانيّ- عبر لجان المقاومة، وقوى الحراك الاحتجاجيّ الأخرى- نظاماً انقلابيّاً عسكريّاً أيضاً، وجريمته الأكبر أنه حدث أثناء غليان الحراك وفي قلب ثورانه، بل هو النظام الخصم الذي قطع، وما يزال يحاول أن يقطع طريق الحراك نحو تحقيق غاياته، وبلوغ مراميه، وإحداث التغيير المنشود لجموع المواطنين السودانيين في البلاد.

  • منهجيّة وتأسيس:

بالتالي- وفق مؤشرات التوطئة وإطاريتها أعلاه- كم يُستحضر سؤال: في ظل هذه اللحظة الحاسمة حالياً، كيف بالإمكان ضمان استمراريّة المقاومة وصمود جماهيريّتها؟ وكيف بالمقدرة مواجهة عنف الدولة، وأعداء الحراك المضاد لحلم الثورة؟ كيف بالإمكانيّة مواجهة هؤلاء الخصوم بطرائقٍ ما، ووسائل ممكنة واستراتيجيّات محددة تعزز فرص تقليل الخسائر، ومجابهة المخاطر المحتملة، وتذليل الصعاب، وما تسمح بالسير بعيداً صوب المبتغى، وبشكلٍ ما يعزز ممكنات مواصلة المقاومة، نحو إحداث ثورة التغيير الذي يحلم جموع المواطنين السودانيين به، منذ أكثر من سبعة عقود إلا ثلاث سنوات قادمة، حاضرة في رحم هذا الوطن المنكوب.

تأتيّ هذه المقالة ضمن سعيّنا إلى محاولة مناقشة راهنيّة حراك ديسمبر بتأسيسات مفاهيميّة من داخل محددات محليّته، وسياقه المناطقيّ الوطنيّ، فضلاً عن أنها محاولة لخلق محايثة لشروط اللحظة الثوريّة لتاريخيّة السياق السياسيّ للبلاد، ترويضاً واشتباكاً مع إكراهات متغيراته الحاليّة، وتحولاته المحتملة، ونتائجه المتوقعة، من خلال حياكة مقاربّة نقديّة استقرائيّة في شكل ايضاحات، وقراءات، وخطوط نظريّة، وأخرى شبه عمليّة لصيرورة الحراك وفرص استمراريّة روحها المقاوِمة. ونعمل أن تتسبّك عمليّة النسج على تتبع سؤال “ماذا ولماذا وكيف” مع التركيز على صيغة التساؤلين الأخيرين، وإكراهاتهما الواسعة، والشديدة الخطورة والصلابة في الإمساك بهما.

ولأن الموضوع قيد المناقشة متشعّب، ومعقّد، وواسع الجدّال حوله، وسريع التغيّر، وشديد الاختلاف من حيث سياق بنائه، وتطبيقه، والإعمال فيه، تقوم سرديّة التحاور والنقاش هذه، كتأسيس مفاهيميّ، على عتبة ثلاث فرضيات مترابطة، وهي عندما نمعن النظر والنقد والمراجعة فيها، تتجلى وحدتها ككتلةٌ واحدة حيويّة. فالأولى فحواها: قام/ يسعى حراك ديسمبر المنتفض الثوريّ إلى عمل انقطاع وانفصال تاريخيّ نهائيّ للشرط العسكريّ، وفرص وإمكانية انخراطه في دهاليز الحُكم وسلطة الدولة. بينما الثانيّة مضمونها؛ يريد الحراك الجماهيريّ الديسمبريّ أن تنتقل حالة الانتفاضة القائمة إلى وضعيّة ثورة تغيير حقيقيّة جذريّة شاملة ومتكاملة ومستدامة وفق المفهوم العلميّ لمفردة الثورة. فيما محتوى الفرضيّة الثالثة تقول: يواجه حراك ديسمبر مواجهات شرسة، وحروب طاحنة، وعنف مفرط من قِبل النظام الانقلابيّ الحاليّ وقوى الاحتجاج المضاد، وأعداء الثورة المتوقعة في سبيل سعيه بجماهيريته الواسعة في مواصلة المقاومة وضمان صمودها واستمراريّتها حتى تحقق أهدافه، وتبلغ غاياته الكبرى في سيرورة مشواره الديناميكيّ الحيويّ الممتد المستمر.

  • كيف يمكن ضمان استمراريّة المقاومة؟

إن تحقيق التفوق على الخصم يستلزم بالضرورة، العمل على إفساد أسلحته فاعليتها، وإمكانيات إعمالها، مقابل الحرص والتشديد على التوظيف العمليّ بفعاليّة جديّة لآليات ونظريات، وممارسات، وتكتيكات المقاومة والنضال السلميّ المتاحة والممكنة والمبدعة، لطالما تم اتخاذ واعتماد نهج المقاومة الجماهيريّة سلمياً ومدنياً وسيلةً ومنهاجاً للنضال. ويجب، بالضرورة، الوعي بما يكفيّ، والإلمام الجيّد- في مختلف الحقول المعرفيّة، والتجارب الحياتية في مختلف الأزمان، والممارسات ذات الصلة التاريخيّة منها والمعاصرة- بمستويات وأساليب وكيفية عمل نهج الحراك اللاعنفيّ، وتطبيقه بشكل تدريجيّ بمرونةٍ، وجديّة، ومسؤولية حاسمة.

وبشكل عام، تتمثل مستويات وأساليب منهج النضال اللاعنفي باختصار، في ضرورة البدء بخلق مرحلة “النزاع الضمنيّ”، والتي يجب من خلالها، السعيّ إلي بناء القدرات والتوعية بالقضايا قيد النضال، الشؤون العموميّة، وتنظيم صفوف المجتمعات، وهنا يجب اتساقها، وتطبيق أسلوب “الاحتجاج والإقناع”، والذي معناه العمل على رفض الوضع الراهن غير المقبول مع السعيّ إلى إقناع جميع ومجموع أصحاب المصلحة بضرورة العمل الجماعيّ لأجل إحداث التغيير المنشود؛ ثورة تغيير حقيقيّة، جذريّة، شاملة، متكاملة، ومستدامة، بالمعنى المعرفيّ العملي.

ثم تالياً، مرحلة “النزاع العلنيّ”، وهي التي تتجلى فيها ممكنات المواجهة شبه المباشر، وهي تستوجب السعي حثيثاً، إلى تعزيز الوعي بمنهج الحراك اللاعنيف وآلياته وأدواته العصيان المدنيّ والإضرابات، وكيفية خلق تكتيكات جديدة مبتكرة تعمل على زيادة حجم المقاومة، كماً ونوعاً، في كافة الجوانب والأصعدة. بعدها ينبغي الانتقال إلى مرحلة “التدخل اللاعنفيّ”، وهي مرحلة المواجهة المباشرة لإحداث التغيير ثورياً أو عبر أدوات بناء السلام كالحوار والتفاوض والوساطة، وهذه المرحلة يتم خلالها تنفيذ خطة العمل الاستراتيجي اللاعنفي بشموليتها. وبالطبع خلال كل هذه المراحل، يجب الحرص على تقييم كل مرحلة قبل الدخول إلى الأخرى التي تليها بمرونةٍ، وموضوعيّةٍ، ومهنيّة رصينة.

وبمراجعةٍ سريعة للحراك، وصيرورته منذ نقطة انطلاق- باعتبار هبة سبتمبر 2013 أو بدونها- شرارته الأولى، يمكن ملاحظة، وقراءة أن هذا الحراك قد مر بهذه المراحل الثلاث، بشكل واعٍ أو دون وعي، بخطة استراتيجيّة شاملة متكاملة أو هكذا وقعت الأحداث كما أتفق، وهكذا حدثت الأمور بارتجالٍ وعشوائية دون أي تدخل عقلانيّ منظم، حصيف، ومقصود. لذلك، ولكيّ لا ندع الأمور تذهب كما تشاء الظروف والإكراهات، ولكي يتم التأكيد مما الجميع ذاهب إليه، وما هم فيه، نقترح أن يُعمل تحليل دقيق، ومراجعة نقديّة جادة وبتريث، للحراك، يعملان على تحديد في أي مرحلة من مراحل ذلك النهج؛ العمل المدنيّ اللاعنفيّ، يقف الحراك فيها، وذلك ما يعني الوعي- على أقل تقدير– بالذات ونقاط قوتها وضعفها أولاً، وما ينتج من أطروحة سؤال: كيف يمكن عمل الخطوة التالية بثبات أكثر، وعزيمة أكبر، ومقاومة أقوى؟

كم نزعم بمستوى يقين ما، أنه إذا اتفقت قوى الحراك الثوريّ بكافة أشكالها ومسمياتها، وأنواعها، وآلياتها المختلفة على عمل ذلك التحليل العميق والدقيق، فإنه– أي الأخير– بمقدوره إعادة صياغة وتعريف سؤال، وما ستسهم نتائجه في ضمان استمراريّة المقاومة: كيف يمكن الذهاب بعيداً في مشوار الحراك بخطى ثابتة، وأنفسٍ صامدة، وأفكاراً جريئة عمليّة، ووسائل مبدعة فعّالة، مع الوعي بضرورة العمل على الحفاظ على كبر وتوسيع حجم المقاومة، كمياً ونوعياً، حتى تحقيق الغايات. لماذا؟ لأن العمل المنظم، ولو يسير ببطء، قد يجني ثماراً ناضجاً، ويتسم بالديمومة وطول الصلاحيّة، ثم كم يُراد لهذا الحراك أن يتحوّل من مجرد فورة انتفاضة وتغيير سياسيّ لرؤوس الطغاة والجبابرة فحسب، إلى وضعيّة ثورة تغيير شامل ومتكامل؛ أي إحداث نقلة نوعيّة وكميّة حقيقيّة، جديدة، مبدعة، وتقدميّة إلغاءً للوضع القائم المنتفض عليه.

ويظل الإيمان بقضايا الحراك الثوريّ والإحساس بها فعلياً، والوعي بجوانبها، والإلمام الكافيّ بمفهوم التغيير، ونظرياته، ومستوياته، ووسائله المختلفة، ونتائجه المتوقعة، بجانب المعرفة الجيدة بآليات المقاومة المدنيّة، والنضال بنهج العمل اللاعنفيّ، وتوافر روح المرونة في تحمّل الآثار الأساسية والمخاطر، الجانبيّة قبل وأثناء وبعد الحراك، مع القدرة على قراءة صيرورة وتقلبات الأوضاع- الوعي بمخطط كورل البيانيّ لحراك العمل اللاعنفيّ- يعتبر جميعها، من أهم شروط ومتطلبات ضمان استمراريّة المقاومة، وإحداث الثورة المأمولة ونتائجها المتوقعة، فضلاً عن الوعيّ والإلمام الجيّد بما يكفي بكيفية صناعة التكتيكات وخصائصها الضروريّة: الإبداع، التدرج، التنوع، الحشد، واستمراريّة الرغبة في المقاومة لدى الجماهير الثائرة، فوق توافر متطلبات تحليل الذات والخصم، بالإضافة إلى ضرورة توفر قيادة راشدة، قويّة، وملهمة.

  • كيف بالإمكان مواجهة عنف الدولة عند الحراك؟

إن السعيّ، ومحاولة الانتصار، والرغبة فيه، على خصم محدد، سواء في الحروب المسلحة أو الباردة أو حتى المختلطة كقيام انتفاضة أو تفجرّ احتجاجات جماهيريّة لتغيير الأنظمة الاستبداديّة، والحكومات القمعيّة الفاسدة بأدوات نهج النضال اللاعنفيّ، تُعتبر فناً، وإجراءً سياسيّ ذو دهاء ومكر بامتياز، بل عملاً إبداعياً خلاقاً، وليست مجرد عمليات جامدة ذات نظريات صارمة، وتوجيهات حاسمة، وعن كتيبات إرشاديّة صلبة، ولا تقبل التهاون بها، أو التساهل فيها، أو نقدها أو الإضافة عليها، أو الانتقاص منها. ومن هذا المنطلق، تصبح حرب المقاومة المدنيّة، وحروب نهج اللاعنف، مواجهات النضال السلميّ السياسيّ مدنياً، فنوناً في غاية الحساسيّة؛ عملياتٌ كم تختزن قدرات هائلة على استيعاب كل أشكال المراوغة، والسياسة بمعنى فن إدارة المهددات بحنكة وذكاء؛ كم تختزن الكثير من المباغتة، والغفلة الكاملة، والدهاء، والأكاذيب، والكثير من الأعمال الاستخباراتيّة، والسريّة التامة في ترتيب الخطط وصناعة القرارات، وحياكة التكتيكات والسعي للتحكم فيها، والسيطرة الكاملة عليها سلباً وإيجاباً عند مواجهة خصم ما مهما كانت قوته، وتهديداته، وتحديات الاشتباك معه بعنف السلاح أو قوة التخطيط، وقوة الأفكار.

بالتالي، وتنفيذاً لذلك، وعند المحاولة والعمل على اختيار وصناعة وتنفيذ الأنشطة، والتكتيكات عند عمل أي خطوة في الحراك الثوريّ، يجب بالضرورة، العمل على معرفة قدرات مجموع القوى المشاركة، والمحتملة مشاركتها من كافة المناطق والقرى والمدن- طبعاً في سياق عمل اتحادات قوية أو تحالفات جيدة بين الأجسام الاحتجاجيّة، والثوريّة، والمنتفضة- بشكل دقيق، وتحديد القيود والمهددات التي من المتحمل أن تعيق سير الحراك، بالإضافة إلى معرفة الموارد مالياً وبشرياً (أفراداً، جماعات، ومؤسسات)، وهنا كم تظهر ضرورة تحليل مراجعة ونقد الذات والسعي للإمساك بتلابيب العليا والدنيا بشكل جادّ، منطقيّ، وعقلانيّ، وبما يكفي من معرفةٍ ذاتيّةٍ (أفراداً أو أجسام) صادقةٍ وعادلة.

لمعرفة الذات/ الأفراد وكذلك الخصم بجانب معرفة سياق المواجهة، (ما يحيل إلى ضرورة الاستعداد الجيّد، والقدرة على تحمل المخاطر، والنتائج السالبة، والتحديات الراهنة والمحتملة)، بشكل دقيق، ثمة أدوات- كأداة “تحليل الأفراد”، وأداة تحليل (SWOT)، وأداة “تحليل الانطباعات”- يمكن استخدامها لتحليلها/ هم، والتي تعمل على الإلمام والوعي بالاهتمامات والاحتياجات، والمصالح، بشكل فرديّ، وما سيسهم في عمل أنشطة وبرامج تساعد في تشجيعهم وتحفيزهم على المشاركة والعمل الفعّال في الحراك. أما لمعرفة المنظمة- جماعة، مجموعات، أجسام، كيانات، حركات بمختلف أنواعها ووسائلها- يجب/ ينبغي تحليل أهدافها، برامجها، وأيديولوجيتها، ووسائل عملها بشكلٍ ما قد يساهم في عقد تحالفات مؤقتة واستراتيجية معها. وفوق كل ذلك، يمكن استخدام كل أدوات تحليل المشاكل كأداة تحليل الشجرة، وأداة خارطة أصحاب المصلحة، وأداة الفواصل والروابط، وأداة تحليل البصلة، وأداة الخط الزمنيّ وغيرها، أو أدوات تحريك المجتمع نحو التغيير، وهي عديدة ومتنوعة، أهمها: أداة طيف الحلفاء والخصوم، وأداة مصادرة القوة، وأداة ركائز الدعم والسحب، وأداة تحليل السلطة، بالإضافة إلى استراتيجيّات صناعة أو إعادة بناء التوازن، ومصادرها.

بعد ذلك، ينبغي أن تتسم كل التكتيكات والأنشطة والبرامج المرسومة بالمرونة، والإبداع الذي يسهم في جذب الانتباه، وصناعة التحفيز الجيد ما يقود على المشاركة والانخراط في الحراك بفعاليّة، فضلاً عن ضرورة أن تتسم بخصيصة التنوّع الفعال، ما يمكن يحقق أهدافاً مختلفة وعديدة، ويلقى النشاط المحدد قبولاً واسعاً من جمهور مناصر مختلف، بل أن التنوع قد يوفر بدائلاً وخيارات كثيرة، حتى بعضها تكون غير متوقعة. بالإضافة إلى خصيصة التدرّج الذي قد يحقق مشاركةً واسعة، ويقلل الخسائر مقابل انتصارات كبيرة، وتوفر إمكانية مشاركة أفراد ومجموعات، وحلفاء جُدد، دون نسيان أو تناسي خصيصة المرونة مطلقاً لأنها الشرط الحاسم، وروح كل تلك الخصائص، لأنها خصيصةٌ تملك قدرة هائلة على تعري وتوضيح وقراءة مدى قدرة قوى الحراك على مواجهة الخصم، ومدى الاستعداد، ومدى المقدرة على القراءة الجيدة، والتعامل الفعال مع السيناريوهات الممكنة، والمتوقعة.

تالياً لذلك، ينبغي السعي الحثيث، لإقناع أكبر قدر ممكن من أصحاب المصلحة الحقيقيين على الانخراط الحيويّ، والمشاركة الفاعلة في الحراك، وذلك ما قد يزيد من فرص إنجاح التكتيك، وفي ذات الوقت يضعّف من نسبة فشل الحراك، والإخفاق في خطوة من خطواته المرسومة بعقلانيةٍ ومنطق.

ولزيادة فرص نجاح النشاط المحدد، أو التكتيك بعينه، يجب بالضرورة، تحديد التكتيك ذاته بوضوح ودقة، بعد إجراء تحليل جيد لمجموعة من التكتيكات والأنشطة، ثم تحديد الهدف من اختياره، والفئة المستهدفة فيه، ومنه وإليه، وقراءة درجة نجاحه في المدى القريب والبعيد، فضلاً عن ضرورة تحديد كافة أوجه المخاطر المحتملة، والتحديات المتوقعة، والتعقيدات المقروءة بجانب معرفة وتحديد كل محددات أو متطلبات تنفيذه بشكلٍ واضح، وجيد ومنطقيّ، عشماً وإرادةً في تحقيق كل الأهداف المرجوّة، والمتوقعة من اختياره.

وأخيراً بعد عمل كل ذلك- في سرديّة رسم الصورة العامة لكيفية المقاومة بتخطيط ووعي وتنظيم جيد، ولزيادة فرص صمود المقاومة واستمراريّتها- يجب بالضرورة، رسم مخطط توضيحيّ دقيق وواضح وحقيقيّ ومتكامل للحراك يقسّم التكتيكات والأنشطة ويحدد البرامج– وطبعاً يجب عمل تقييم موضوعيّ عمليّ عادل بعد استخدام كل تكتيك عن الأخر- وفق الخطة الاستراتيجية الشاملة، ويربط كل مراحل سير الحراك ومستويات عمل أدوات المقاومة ونهج النضال اللاعنفيّ، بشكل عضويّ، وحيويّ ومباشر، وينبغي أن يرسم في مخطط مربع يبدأ التخطيط فيه تصاعدياً؛ حيث المرحلة الأولى، تسمى “التكتيكات المبكرة”، وهي التي تعمل على بناء القدرات، ومعرفتها، وتوعية الجماهير بالقضايا، وتعمل كذلك على تعزيز المشاركة، وهذه لابد أن يتم ربطها بالمرحلة الأولى للنهج، وهي مرحلة “الاحتجاج والإقناع”، ثم تعقبها في مربع أعلى منها تسمى مرحلة “التكتيكات المرحليّة”، وهي تسعى إلى البرهنة على قوة الحراك وجماهيريتها، ومشروعيّتها، وقوة العمل الثوريّ، وضرورة روح العمل الجماعيّ فيه، ثم في أعلى المخطط تأتي مرحلة “التكتيكات اللاحقة”، وهي التي تعمل جاهدة إلى محاولة تحويل الوضع الراهن الذي خُلق بعد التغيير المنشود، إلى وضعيّة مواتية تحفز الجميع، وخاصة النشطاء السلبيون، والمحايدون، والمعارضون السلبيون، إلى الانخراط والمشاركة في الحراك بفعاليّة وإقناع ووعي تام، سعياً لتحري مشاركة الجميع في إحداث ثورة التغيير الكبير؛ الحلم الذي لطالما راود جموع المواطنين السودانيين منذ أكثر من بضعة وستين عاماً من عمر سودان ما بعد الاستقلال؛ الوطن الذي ما انفك يعاني ويعاني حتى هذه اللحظة.

وبغيّة السعي الجاد لحماية نشطاء الخطوط الأمامية عند الحراك، يجب بالضرورة، الحرص على عمل تحليل (SWOT) لمعرفة قدرات الذات، والخصم جيداً، وبما يكفي، الأمر الذي قد يسهم في معرفة متطلبات ومخاطر كل تكتيك، وكيفية السعي لتقليل المخاطر تجاههم بصورة أكبر، وتقلل من تكبد خسائر كبيرة، فضلاً عن المحاولة لخلق وتقسيم الأدوار والمهام وفق لجان وتنسيقيات معينة، وتوزيع الأفراد فيها وفق قدراتهم وطاقاتهم وتخصصاتهم ومدى إبداعهم في اللجنة المعنية، وفوق ذلك يجب السعي التام نحو عمل تحليل (PESTEL) لمعرفة كافة الفرص والمهددات، والوعي الجيّد نظرياً وعملياً بآليات وكيفية استخدام منهجيّ: العمل اللاعنفي، ومنهج بناء السلام في مسيرة الحراك، وصيرورته، ونتائجه المتوقعة.

في الخلاصة، هكذا ندرك بهكذا سرديّة، أن التغيير وإحداثه– سواء من خلال مجموع أدوات واستراتيجيات ونظريات نهج الحراك اللاعنيف أو حتى بقية أدوات النضال حتى المسلحة والعنيفة منها- عمليةً معقدة ومستمرة وذات شروط، وإكراهات، وعوامل داخليّة وخارجيّة ونظريات، وتصورات، واتجاهات عديدة ومتنوعة ومتشعبة لدرجة أن بعضها متناقضة فيما بينها، عند التنظير لها، أو العمل بها وتطبيقها. ويبقى أن السعيّ والاجتهاد، والجهود اللامحدودة لضمان استمراريّة المقاومة لبلوغ غاياتها، وحشد كل ممكنات مواجهة عنف الدولة أو النظام الاستبداديّ الدكتاتوري العسكري القائم، أو يحتمل أن يقع تجاه الحراك بجانب ضرورة وضع استراتيجيات محكمة، وبرامج حقيقيّة وفعالة، لمنع العنف المضاد الذي يواجهه النشطاء الذين يقودون معارك المقاومة الأماميّة، من أهم متطلبات زيادة فرص نجاح حراك ديسمبر، وتجليّ ممكنات استمراريّة روحها المقاوِمة للذهاب بعيداً وعميقاً صوب إحداث التغيير المطلوب، ولقيام الثورة حلم الجميع، لنموذج المجتمع والدولة والفرد، والمواطن، والوطن المنشود.

  • مصادر وللاستزادة:

1-    دليل عمل منهج SNAP النسخة العربية

2-    كتب صموئيل هينتغتون، ترجمة: عبدالوهاب علوب، دار سعاد

3-    أعمال جان، ماري مولز، حركة حقوق الإنسان، بيروت، 1999

4-    أعمال جين شارب، حركة حقوق الإنسان، بيروت، ط١، 1997

5-    مطبوعات د. هشام مرسي، أكاديمية التغيير، بيروت، 2007م


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *