صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

في السودان لا توجد إرادة سیاسية للاستقلال الاقتصادي (مقابلة)

شارك هذه الصفحة

قال الخبير الاقتصادي د. أحمد حامد إن الموازنة للعام 2023 تحمل في طياتها أعباء إضافیة لا قبل للمواطن على تحملها، لافتا إلى أن إعدادها تم في تكتم. وأشار حامد إلى أن وزیر المالیة لحكومة الانقلاب يعمل بجهد على فرض ضرائب وزيادة رسوم للخدمات والأسعار إلى ما لانهاية.

ويرى حامد أن الدولة السودانية منذ أربعين عاما لم تتمسك بالقرار الاقتصادي، وهو ما يحتاج إلى إرادة سیاسية صلبة وسند جماهيري وفرته ثورة دیسمبر٢٠١٨. أدناه نص المقابلة.

ما مرجعية الموازنات التي ظلت تطرح؟

مرجعیة إعداد المیزانیة السنویة للدولة السودانیة منذ نحو أکثر من أربعین عاما، هي اللیبرالیة الجدیدة، أیدیدولوجیة رأس المال الاحتکاري العملاق العابر للحدود٠ واللیبرالیة الاقتصادیة الجدیدة تسعی لتحویل کل العالم إلى مسرح لنشاط الشرکات العملاقة متعدیة الجنسیة، المملوکة، في الأساس، لمراکز الرأسمالیة العالمیة الثلاثة: الولایات المتحدة الأمریکیة، الاتحاد الأوروبي شاملا بریطانیا والیابان، وتسعى لإزالة کافة القیود التي تعيق حرکة هذه الشرکات العملاقة للسیطرة، والتحکم في موارد بلدان العالم، وبخاصة بلدان قارات إفریقیا وآسیا وأمریکا اللاتینیة، واستنزاف فائضها الاقتصادي. والسبیل إلی ذلك هو إضعاف الدولة القومیة وسلبها استقلالیة قراراتها لتدور في فلك التبعیة بأشکالها المختلفة٠

المیزانیات السنویة، ومنذ نهایات سبعینيات القرن العشرین، وإلی یومنا هذا، ظلت تشکل أداة مهمة لتنفیذ مبادئ اللیبرالیة الاقتصادیة الجدیدة، تحت إشراف وضغوط صندوق النقد والبنك الدولیین، ومن خلفهما وزارة الخزانة الأمریکیة. والالتزام بتنفیذ برامج التثبیت والإصلاح الهیکلي التي تملیها تلك الجهات هو جواز المرور للحصول علی رضا الإدارة الأمریکیة ودوائر المال العالمیة ومن ثم القروض.

لكن في الغالب تواجه مثل هذه البرامج الاقتصادية بمقاومة شعبية؟

تطبیق تلك البرامج کان أکثر سفورا ووحشیة بواسطة نظام الإسلام السیاسي المباد، تحت حراسة القهر والإرهاب ومصادرة الحریات والفصل والتشرید والاعتقال والتعذیب والتصفیة في بیوت الأشباح، وقد تزامن ذلك مع سیاسات التمکین التي هیأت المناخ لتطبیق برامج التثبیت والإصلاح الهیکلي، بدءا من البرنامج الثلاثي الأول دون أیة مقاومة، علما بأن تطبیق تلك البرامج ووجه بمقاومة شعبیة اتسمت بالجسارة وقدمت فیها تضحیات جسام. واصلت حکومتا د. عبد الله حمدوك السير علی ذات درب حکومات الإنقاذ، منتهجة نفس السیاسات الاقتصادیة المصممة علی ذات برامج التثبیت والإصلاح الهیکلي، وجاء تطبیقها أکثر إیلاما وقسوة علی السواد الأعظم من جماهیر الشعب السوداني، واستغل حمدوك ووزیر مالیته تأیید جماهیر ثورة ديسمبر وصبرها علیه وعلی حکومته لیستجیب هو ووزیر مالیته لمطالب الصندوق والبنك الدولیین ووزارة الخزانة الأمریکیة، جریا وراء إعفاء الدیون والحصول علی مزید من القروض، بزعم أنها العلاج الناجع لکل أمراض الاقتصاد السوداني، غیر مدرکین تکلفة الخضوع لتلك الجهات وإملاءاتها، وهي التنازل عن حق استقلالیة القرار الاقتصادي والتحکم في وجهة التنمیة وتعزیز الاستقلال السیاسي بالاستقلال الاقتصادي، علما بأن موارد السودان، وفقا لصندوق النقد الدولي نفسه کما جاء في رسالة الراحل إبراهیم منعم منصور إلی عبد الفتاح البرهان وحمیدتي قبیل رحیله، تغنیه عن اللجوء للخارج٠

لماذا افتقدت كل الحكومات لاستقلال القرار الاقتصادي؟

التمسك باستقلالیة القرار الاقتصادي یحتاج إلی إرادة سیاسية صلبة وسند جماهیري واسع، وهذا ما وفرته ثورة دیسمبر٢٠١٨ المجیدة وإضاعته الحکومة الانتقالیة. وفي كل الأحوال، استقلالیة القرار الاقتصادي لا تعني العزلة والانکفاء علی الذات، ولا مقاطعة البلدان المتقدمة والمؤسسات والمنظمات الدولیة، بل إخضاع العلاقات معها لمصلحة تطور الاقتصاد الوطني وتحقیق الأهداف الاستراتیجیة للتنمية. استقلالیة القرار الاقتصادي تعني حریة اختیار نموذج التنمیة، لا أن یتم فرضه من الخارج وفق منطق ما هو خیر لدوائر رأس المال العالمي هو خیر للجمیع٠

موقف هذه الدوائر، وبخاصة الولایات المتحدة الأمریکیة، یناهض استقلالیة القرار الاقتصادي، إذ أن هذه الاستقلالیة، وفقا للمفكر الأمريكي نعوم تشومسکي، هي أکثر ما یزعج دوائر صنع القرار في الولایات المتحدة؛ لأن مثل هذا التوجه یتعارض مع هدفها الاستراتیجی للهیمنة علی العالم وفرض رٶیتها الاقتصاديّة والسیاسیة والثقافیة علیه، من منظور اللیبرالیة الجدیدة النسخة الأمریکیة الأکثر توحشا٠

وهناك طبقات تعارض الاستقلال الاقتصادي؟

تعارض استقلالیة القرار الاقتصادي الطبقات والشرائح الاجتماعیة التی خلقتها وعززت من وجودها علاقات التبعیة، وفي مقدمتها الرأسمالیة الطفیلیة التي تبوأت مرکز قیادة الرأسمالیة السودانیة خلال سنوات حکم الإنقاذ، وتوسعت صفوفها إبان الفترة الانتقالیة، وکانت ولا تزال تلعب الدور الرئیسي في إعاقة مسیرة الثورة وإقامة الدولة المدنیة الدیمقراطیة٠

السلطة الانقلابية، والنظام المباد من قبل، خلقا جهاز دولة معاد لأي إصلاح اقتصادي بل قاوموه بشدة؟

لعبت میزانیات الدولة، ولا تزال، دورا کبیرا في إعادة توزیع قسم من الدخل القومي لمصلحة الرأسمالیة الطفیلیة المنتمیة للمؤتمر الوطني المحلول، من خلال تمکینها من سوق الدولة لتزوید الأخیرة بالسلع والخدمات وبأسعار تتجاوز أسعار السوق في عملیات یشوبها الفساد وتنفذ من خلال جماعات المصالح التي تتشکل من النافذین فی جهاز الدولة والأفراد والشرکات الطفیلیة، واتسع التأثیر السلبي لهذه الظاهرة عندما أصبح الحکام في عهد الإنقاذ یمارسون، ودون حرج، أنشطتهم التجاریة الخاصة، بما في ذلك المضاربة في العملات الأجنبیة والسمسرة في الأراضي واستیراد المواد البترولیة وغیرها من السلع، وبیعها للدولة بأسعار مرتفعة٠

التحكم في قنوات التوزيع عادة ما يكون بطابع سياسي وتجلى ذلك في فترة النظام المباد؟

تسرب قدر لا یستهان به من إیرادات الدولة إلی شرکات المؤتمر الوطني، وشرکات رموزه والمنظمات الدعویة والطوعیة التي ربطتها صلات بنظام الانقاذ من خلال إعفائها من الضرائب، أي أن الدولة ظلت تقدم لها دعما بتنازلها لها من جانب من إیراداتها، وما یجدر ذکره أن د. إبراهیم بدوي، أول وزیر مالیة في الفترة الانتقالیة، کان قد شکل لجنة برئاسة أحد کوادر المؤتمر الوطني، مدیر الضرائب في عهد الإنقاذ، لحصر الإعفاءات الضریبیة والوقوف علی حجمها، إلا أن النقاب لم یکشف عن النتائج التي توصلت إلیها تلك اللجنة٠

الانفاق العسكري أرهق خزينة الدولة، وحاليا انضمت الحركات المسلحة في بند الانفاق؟

تخصیص القسم من الإنفاق للإنفاق العسکري والأمني والشرطي، الذي زاد علی نحو ملحوظ بعد أن تولت الخزینة العامة الصرف علی قوات الدعم السریع، ویقدر لهذا الإنفاق أن یزید بتولي الدولة الانفاق علی قوات الحرکات المسلحة الموقعة علی اتفاقیة جوبا٠

ومایجدر التأکید علیه هو أن الانفاق العسکري والأمني المتزاید أصبح یشکل عبئا ثقیلا علی الاقتصاد الوطني، فضلا عن أن هذا الانفاق شکل مصدرا لتمویل قیام الشرکات التابعة للقوات النظامیة والأخری الرمادیة، والتي أصبحت تشکل اقتصادا موازیا یستولی علی ٨٢ بالمائة من الموارد، حسب رئیس وزراء الفترة الانتقالیة د٠ عبدالله حمدوك ویترک للخزینة العامة ١٨ في المائة فقط.

استمرار الحکومة الانتقالیة في انتهاج السیاسات المستمدة من اللیبرالیة الاقتصادیة الجدیدة برغم حصادها خلال سنوات حکم الإنقاذ، وعدم تجفیف بٶر الفساد فی جهاز الدولة والبطء الذي صاحب عمل لجنة إزالة التمکین والعراقیل التي وضعت أمام عملها من جانب المکون العسکري والدولة العمیقة، وحلها في إعقاب انقلاب ٢٥ أکتوبر٢٠٢١ وصعود طفیلیین جدد والاستحواذ علی نصیب من سوق الدولة واستمرار الممارسات الفاسدة خاصة فی قطاع التعدین وتهریب نحو ٧٥ بالمائة من الذهب المنتج بالإضافة إلی تهریب الصمغ العربي والسمسم والحیوانات الحیة والعملات الأجنبیة وممارسة الأنشطة ذات الصلة بالجریمة الاقتصادیة، واستئثار الانفاق العسکري والأمني والسیادي بمعظم موارد میزانیة الدولة وتزاید هذا الانفاق بعد إبرام اتفاقیة جوبا وبعد الانقلاب العسکري في ٢٥ أکتوبر ٢٠٢١ وإقدام الحکومة علی زیادة أسعار المحروقات والکهرباء والمیاه ورسوم الخدمات الحکومیة وفرض المزید من الضرائب علی المنتجین والمستهلکین، وتخفیض قیمة العملة الوطنیة لتصل إلی أدنی مستویاتها مقابل العملات الأجنبیة إذ أصبح الجنیه السوداني یساوي أقل من٢ من ألف من الدولار الأمریکي، وارتفعت أسعار ضروریات الحیاة من أغذیة وأدویة ورسوم تعلیم إلی أعلی مستویاتها في الوقت الذي تدهورت فیه الأجور الحقیقیة وتتسع فیه الفجوة بینها والحد الأدنی لتکالیف المعیشة الذي یبلغ وفقا لأکثر التقدیرات تواضعا نحو ٢٦٠ ألف جنیه لأسرة مکونة من خمسة أفراد في الشهر لیعیشوا فوق عتبة خط الفقر المطلق بقلیل علما بأن الحد الأدنی للأجور فی الوقت الحاضر البالغ ١٢ ألف جنیه یغطي ٤٫٦ بالمائة فقط من الحد الأدنی لتکالیف المعیشة. هذا قبل أن تدخل میزانیة العام٢٠٢٣ حیز التنفیذ هذه المیزانیة.

الموازنة الجديدة أعدت في تكتم، لكن الواضح أنها تتذر بأعباء إضافية على المواطن؟

نعم. أعدت في تکتم شدید وأخذت طریقها للتنفیذ دون إجازتها من سلطة تشریعیة لتصبح قانونا، تحمل فی طیاتها أعباء إضافیة لا قبل للمواطن بتحملها، وفیما یبدو أن وزیر مالیة الانقلاب یعتقد أن بإمکانه التمادي في فرض الضرائب وزیادة رسوم الخدمات وأسعار السلع إلی ما لا نهایة وتمویل الإنفاق المتضخم لسلطة الانقلاب وتأمین ما یعادل٧٥٠ ملیون دولار وفق ما نصت علیه اتفاقیة جوبا. خطورة التمادي في فرض الضرائب علی الدولة لتمویل إنفاقها المتضخم إدرکها وحذر منها ابن خلدون في القرن الرابع عشر ولم یدرکها بعد وزیر مالیة الانقلاب في القرن الحادي والعشرین.

المستفيد الأول في ظل سلطة الانقلاب هو النشاط الطفيلي وتبعا لذلك خرج المنتجون من الدائرة الاقتصادية؟

ذات السیاسات التی اثقلت کاهل المستهلك بالاعباء وأضعفت قدرته الشراٸیة فلم یعد قادرا علی شراء مایلبي أبسط احتیاجاته وألقت ب٨٠ في المائةمن السکان في دائرة الفقر ،هي نفس السیاسا ت التي ارهقت ،المنتجین وأدت الی عزوف الکثیرین منهم عن الانتاج من جراء ارتفاع تکالیف الانتاج وتقلص معدلات الربح الذي یحققونه إن افلتوا من الخسارة وتآکل رأس المال،فهذه السیاسات هي التی تعمل علی ابعاد الدولة من دائرة النشاط الاقتصادي المنتج وتحارب صغار المنتجین والرأسمالیة ذات التقالید الانتاجیة في الزراعة والصناعة في الوقت الذي تهیئ فیه الفرص للنشاط الطفیلي وتمکن الرأسمالیة الطفیلیة من الاستحواذ علی معظم الفائض الاقتصادي ،هي التي أدت وتٶدي الی ضمور القطاعات الانتاجیة والتی أصبحت تسهم بأقل من ٥٠ في المائة من الناتج المحلي الاجمالي٠


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *